-->

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي -

                                                  الفصل الثاني العُصاب الخبيث والعُصاب غير الخبيث مع تاريخ حالة لعُصاب غير خبيث
قبل أن أمضي إلى السؤال: ما هو الشفاء التحليلي أو ما هي العوامل المؤدية إلى الشفاء التحليلي، من الطبيعي أن ينظر المرء ويفكر في السؤال: ماذا يوجد من أنواع العصاب؟ إنه توجد تصنيفات كثيرة للعصاب وتبدلات كثيرة في التصنيف. وقد افترض الدكتور منينغر Menninger مؤخراً أنه ليست لجلّ هذه التصنيفات قيمة خاصة، من دون اقتراح تصنيف جديد لـه مفهوم يزكّيه بوصفه مفهوماً تصنيفياً أساسياً. وأنا أود أن أقترح التصنيف التالي ـ وهو تصنيف بسيط جداً إلى حد ما ـ وذلكم هو الفارق بين العُصاب غير الخبيث والعُصاب الخبيث.‏ 
يكابد الشخص عصاباً غير خبيث أو خفيفاً، إذا كان ـ أو كانت ـ لا تستولي عليه من حيث الأساس إحدى هذه العواطف الخبيثة، بل كان عصابُه أو عصابها ناجماً عن صدمات نفسية عنيفة. وأنا هنا على أتم الوفاق مع ما قاله فرويد، أي أن أفضل فرص الشفاء تكمن بالضبط في تلك الأحوال العصابية حيث يعاني المريض من أعنف الصدمات النفسية. والمحاكمة العقلية لذلك هي أن المريض إذا أبقى صدمة نفسية قاسية من دون أن يغدو ذُهانياً أو أن يُسفر عن مظاهر مَرَضية مُُفزعة للغاية، فسيظهر بالفعل أنه أو أنها من وجهة النظر التكوينية لديه أو لديها قدر كبير من القوة. وفي تلك الأحوال العصابية التي لا يكون فيها ما أود أن أسميه نواة بنية الطبع قد تضرّر على نحو بالغ الشدة، أي الذي لا يتميّز بهذه الأحوال النكوصية الحادة، هذه الأشكال العنيفة من العواطف الخبيثة، أعتقد أن المحلل يجد فيها أفضل فرصة. ومن الطبيعي أن ذلك يقتضي العمل الذي يجب أن يتوضّح فيه كل ما كبته المريض، يجب أن يصل إلى الوعي؛ يعني: طبيعة العوامل الصادمة، وردود فعل المريض على هذه العوامل الصادمة ـ التي أنكرت، كما هو كثير التواتر، الطبيعة الحقيقية لهذا العامل الصادم.‏
وأريد أن أوضح العصاب غير الخبيث بمثال من تاريخ قصير لحالة امرأة مكسيكية أشرفت على علاجها. إنها غير متزوجة، في زهاء الخامسة والعشرين من العمر، وعَرَضها المرَضي هو السِّحاق. ومنذ سن الثامنة عشرة كانت لها علاقات سحاقية مع الفتيات الأخريات. وفي المرحلة التي تأتي فيها إلى المحلل لديها علاقات سحاقية مع مغنية ملهى، فتذهب كل ليلة لسماع صديقتها، وتسكر، وتكتئب، وتحاول الخروج من هذه الحلقة المرذولة التي تتفاقم فيها الصعوبات، ومع ذلك تخضع لهذه الصديقة، التي تعاملها معاملة بغيضة. وبالرغم من ذلك، يُفزعها كثيراً أن تتركها، ويُرهبها بشدة تهديد المرأة الأخرى بتركها، فتستمر في علاقتها بها.‏
والآن، فهذه صورة سيئة إلى حد ما: حالة سحاقية، ولكنها تتميز كثيراً بالقلق الدائم، والاكتئاب الخفيف، وانعدام الهدف في الحياة، وهلم جرا.‏
ما تاريخ هذه الفتاة؟ كانت أمها امرأة اتخذها رجل ثري خليلة لـه زمناً طويلاً، وكانت هي نسل هذه العلاقة، الابنة الصغيرة. وإلى حد ما كان الرجل شديد الدعم للمرأة والفتاة الصغيرة، ولكنه لم يكن أباً بادياً للعيان، فلم يكن ثمت حضور للأب. على أن الأم كانت امرأة كيّادة من جميع الوجوه ولم تستخدم الفتاة الصغيرة إلا لجني المال من الأب. كانت تبعث بالفتاة إلى الأب للحصول على المال منه، فتبتزّ الأب من خلال الفتاة، وتضعضع الفتاة بكل طريقة تستطيعها. وكانت شقيقة الأم مالكة لبيت دعارة. وقد حاولت أن تستميل الفتاة الصغيرة إلى البغاء، وبالفعل فقد ظهرت الفتاة الصغيرة ـ ولم تكن آنئذ صغيرة جداً ـ عارية أمام الرجال لتُجزى بالمال على ذلك. ومن المحتمل أن عدم تعريها أكثر من ذلك قد اقتضى منها الكثير من قوة الاحتمال. ولكنها كانت مرتبكة بصورة مريعة لأن أطفال مجمّع الأبنية، يمكن أن تتصوروا بأية أسماء ينادونها، بما أنها بصراحة لا مجرد فتاة من دون أب، وإنما لأنها ابنة أخت صاحبة مبغى.‏
هكذا نشأت حتى سن الخامسة عشرة لتصبح فتاة مرتاعة، متنحية عن الناس، لا ثقة لها بالحياة، أياً كانت. ثم أرسلها أبوها، وقد استبدّت به إحدى بَدَواته، إلى المدرسة، إلى كلية في الولايات المتحدة. ويمكن أن يتخيّل المرء تغيّر المناظر المفاجئ بالنسبة إلى هذه الفتاة الصغيرة، بمجيئها إلى كلية أنيقة نوعاً ما في الولايات المتحدة، وكانت فيها فتاة لطيفة معها أحبتها وعاملتها بمودة، وبدأتا علاقة سحاقية. والآن لا شيء يُدهش في ذلك. وأعتقد أنه من الطبيعي تماماً أن تبدأ فتاة شديدة الذعر، ولها ذلك الماضي، بصلة جنسية مع أي أحد، رجلاً، أو امرأة، أو حيواناً، إن أظهر نحوها عاطفة حقيقية؛ فهذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها من جهنم. ثم يتحقق لها وصال سحاقي آخر وتعود إلى المكسيك، تعود إلى الشقاء نفسه، مصحوبة بالحيرة دائماً، وهي مع الإحساس بالخجل على الدوام. ثم تصادف تلك المرأة التي تحدثتُ عنها والتي أبقتها في حالة الطاعة ـ وتلك حالتها عندما تأتي إلى المحلل.‏
وكان ما حدث في التحليل ـ وأعتقد أنه جرى في غضون سنتين ـ أنها تخلّت عن صديقتها السحاقية، ثم أقامت بمفردها بعض الوقت، ثم راحت تتواعد مع الرجال، ثم وقعت في حب أحد الرجال، ثم تزوجته ولم تكن حتى باردة. ومن الواضح أن هذه الحالة لم تكن من حالات الجنسية المثلية بأي معنى حقيقي. وأقول "من الواضح"ـ وقد يختلف معي بعضهم ـ ولكنها في رأيي فيها من الجنسية المثلية بمقدار ما هو من المحتمل أن يكون كامناً في جل الناس.‏
كانت هذه الفتاة بالفعل ـ ويمكن أن يرى المرء ذلك من أحلامها ـ ليست سوى مذعورة من الحياة إلى حد لا يطاق؛ كانت مثل فتاة تجيء من معسكر اعتقال، وتكون مخاوفها كلها مشروطة بهذه التجربة. وفي زمن قصير نسبياً، إذا أخذنا في الاعتبار الزمن الذي يتطلّبه التحليل في العادة، تتطور هذه المريضة إلى فتاة سوية تماماً، ولها استجابات سوية.‏
أقدم هذا المثال لأشير بالضبط إلى ما أعني، وإلى ما أعتقد أن فرويد يعني، بالدور القوي للصدمات النفسية في نشوء العُصاب ضد العوامل التكوينية. ولا ريب أنني مدرك أن فرويد عندما يتحدث عن الصدمات النفسية يعني بها هذا الأمر المختلف عما من شأني أن أعنيه بها: إن من دأبه أن يبحث من حيث الأساس عن الصدمة ذات الطبيعة الجنسية؛ وأن يبحث عن الصدمة الحادثة في عمر أسبق. وأعتقد أن الصدمات في الكثير جداً من الأحيان تكون عملية مديدة تتبع فيها التجربة الأخرى، ويكون لك منها مجموع حقاً، وأكثر من المجموع، تكديس للتجارب ـ بطريقة أعتقد أنها لا تختلف كثيراً عن عصاب الحرب، حيث تأتي مرحلة التحطّم عندما يمرض المريض.‏
ومع ذلك، فالصدمة أمر يحدث في البيئة، التي هي تجربة حياتية، تجربة حياتية حقيقية. وينطبق هذا الأمر على هذه الفتاة وعلى هذه الأنواع من المرضى بالصدمات النفسية، حيث لا تكون نواة بنية الطبع في أساسها تالفة. فعلى الرغم من أن الصورة قد تكون بالغة الشدة حقاً في الخارج، فإنه تكون لدى المرضى فرصة طيبة جداً لأن يتعافوا ويتغلّبوا على العُصاب الاستجابي في زمن قصير نسبياً لأنهم سليمون من الناحية التكوينية.‏
وفي هذا السياق أود أن أؤكد أن خبرة الصدمة في العصاب غير الخبيث أو الاستجابي يجب أن تكون ضخمة حقاً لتكون تفسيراً لنشوء المرض العصابي. هل تظهر في حالة أب ضعيف وأم قوية؟ إن هذه "الصدمة" لا تفسّر إذن لماذا يكابد الشخص العصاب لأن ثمت الكثيرين الذين لديهم أب ضعيف وأم قوية ولا يصبحون عصابيين. وبكلمات أخرى، إذا أردت أن أفسّر العُصاب بحادثة صادمة فعليّ أن أفترض أن الحوادث الصادمة ذات طبيعة غير عادية بحيث لا يعتقد المرء أنه توجد أحوال لها الخلفية الصادمة نفسها وأصحابها معافون تماماً. ولهذا أعتقد في تلك الأحوال، عندما لا يكون لدى المرء ما يُظهره أكثر من أب ضعيف وأم قوية، فإن على المرء أن يفكر أنه توجد عوامل تكوينية تعمل عملها؛ أي عوامل تجعل هذا الشخص عُرضة للعصاب ولا يمكن لدور الأب الضعيف والأم القوية فيها أن يكون صادماً إلا لأن العامل التكويني ينزع إلى العصاب. وفي ظل الظروف المثالية فإن شخصاً كهذا يمكن أن يغدو مريضاً.‏
ولست راغباً في قبول الافتراض القائل بأن أحد الأشخاص يصير شديد المرض وكل تفسيري إنما هو تفسير يصدق على الكثير جداً من الآخرين الذين لا يُمسون شديدي المرض. وتجدون أسرة مؤلفة من ثمانية أطفال وأحدهم مريض وبقية الأطفال غير مريضين. وفي أغلب الأحيان يكون التعليل العقلي هو: "أجل ولكنه الولد الأول، الولد الثاني، الولد الأوسط، يعلم الله ماذا..." كان ذلك هو السبب الذي جعل تجربته تختلف عن تجربة كل الآخرين. وذلك يكون دقيقاً جداً عند الذين يودون أن يريحوا أنفسهم بأنهم اكتشفوا الصدمة النفسية، ولكنه بالنسبة إليّ تفكير شديد التهاون.‏
ومن الطبيعي أنه قد تكون هناك تجربة صادمة لا نعرفها، أي تجربة لم يرد ذكرها في التحليل. وإذا كان المحلل سيمتلك البراعة للعثور على تلك التجربة الصادمة القوية والحقيقية وغير العادية وسيستطيع أن يُظهر كيف كانت أساسية في نشوء العُصاب، فأنا سعيد للغاية. ولكنني لا أستطيع أن أدعو تجربةً صادمة ما يتبيّن أنه ليس تجربة صادمة في أحوال كثيرة أخرى. ويوجد عدد كبير من التجارب الصادمة التي هي غير عادية حقاً. ولهذا السبب قدّمت هذا المثال.‏
وثمت مثال آخر وهو ما أريد أن أذكره بعينه، وهو ظاهرة شديدة الحداثة، وسؤال أصعب من أن يجاب عنه. كيف يكون رجل المنظمة الحديثة، في الحقيقة، مريضاً: مغترباً، نرجسياً، من دون ارتباط، من دون اهتمام حقيقي بالحياة، واهتمامه الوحيد هو بالآلات والأدوات الصغيرة، و"السيارةُ السبور" أشدّ إثارة لـه من المرأة. والآن، كيف يكون مريضاً إذن؟‏
ويمكن من بعض الوجوه أن يقول المرء إنه مريض تماماً، ولهذا تتتابع أعراض معينة: فهو مرتاع، وهو مضطرب، ويحتاج إلى التأكيد المستمر لنرجسيته. ولكن في الوقت نفسه يمكن أن يقول المرء إن مجتمعاً بأسره لا يكون مريضاً بهذا المعنى: فالناس يؤدون وظائف. وأعتقد أن المشكلة التي يثيرها هؤلاء الناس هي كيف يكيّفون أنفسهم مع المرض العام، أو ما يمكن أن يُطلق عليه "التغيّرات المرَضية في الحالة السوية". وتكون المشكلة العلاجية بالغة الصعوبة في هذه الأحوال. فهذا الإنسان يعاني من نزاع "نووي"، أي من اختلال عميق في نواة شخصيته: فيُبدي شكلاً متطرفاً من النرجسية والافتقار إلى محبة الحياة. ومع ذلك فمن أجل شفائه عليه أولاً أن يغيّر شخصيته الكلية. وعلاوةً، سيكون المجتمع بأسره ضده، لأن المجتمع بأسره لصالح عُصابه. وهنا تكون أمام مفارقة في أن يكون لديك شخص مريض إلى حد ما نظرياً، ولكنه، مع ذلك، غير مريض بمعنى آخر. إنه لأمر بالغ الصعوبة أن تقرر أي نوع من التحليل تقوم به، وأنا أجد ذلك مشكلة عويصة حقاً.‏
وإذا تحدّثنا عما أدعوه العصاب غير الخبيث، فالمهمة بسيطة نسبياً، لأنك تعالج بنية طاقة نووية، بنية طبع؛ تعالج أحداثاً صادمة تفسّر التشوّه المرَضي بعض الشيء. وفي جو التحليل، في الشعور بالكشف عن اللا شعور مع المساعدة التي هي العلاقة العلاجية بالمحلل، تكون لدى الناس فرصة طيبة جداً لأن يتعافوا.‏
وما أعنيه بفكرة العصاب الخبيث قد قلته من قبل. إنها أحوال العصاب التي تكون فيها نواة بنية الطبع متضررة، حيث تكون إزاء أناس لهم ميول متطرفة إما نكروفيلية، وإما نرجسية، وإما مفرطة التعلّق بالأم، وفي الأحوال القصوى، غالباً ما تسير هذه الميول كلها معاً وتنزع إلى التلاقي. وهنا تكون مسؤولية العلاج الشفائي هي تغيير وظيفة الطاقة ضمن البنية النووية. وسيكون من الضروري للشفاء تغيير النرجسية، والنكروفيليا، وكل الارتباطات بسفاح الحُرُم. وحتى لو لم تتغير تماماً، حتى لو وُجدت وظيفة طاقة صغيرة فيما يسميه الفرويديون تركيزَ طاقةِ هذه الأشكال المختلفة، فإن ذلك من شأنه أن يُحدِث للشخص اختلافاً كبيراً. وإذا كان من شأن هذا الشخص أن ينجح في تقليل نرجسيته، أو في تنمية البيوفيليا عنده إلى حد أكبر، أو في تطوير اهتمامه بالحياة وما إلى ذلك، فإنه تكون لدى هذا الشخص فرصة ما ليتعافى.‏
وإذا تحدثنا عن الشفاء التحليلي، ففي رأيي أن على المرء أن يدرك اختلاف فرص الشفاء في الأحوال الخبيثة والأحوال غير الخبيثة إدراكاً جيداً. ورُبّ قائل يقول إن ذلك بحق هو الاختلاف بين الذُّهان والعُصاب، ولكنه ليس كذلك، حقاً، لأن أحوالاً كثيرة مما أدعوها أحوال عصاب الطبع الخبيثة ليست ذُهانية. إنني أتكلم هنا عن ظاهرة تجدونها في المرضى العُصابيين الذين تظهر لهم أعراض مَرَضية أو لا تظهر، والذين هم ليسوا ذُهانيين، وليسوا حتى قريبين من الذُّهان، ومن المحتمل ألا يصبحوا ذهانيين، ومع ذلك تكون مشكلة الشفاء مشكلة مختلفة كل الاختلاف.‏
وما هو مختلف كذلك إنما هو طبيعة المقاومة. إنكم لتجدون في العُصاب غير الخبيث ـ بعد كل المقاومة التي هي وليدة التردد، وبعض الخوف وهلم جرا ـ أن المقاومة من السهل نسبياً التغلّب عليها ما دامت نواة الشخصية سليمة. ولكن إذا تناولتم مقاومة ماأدعوه أحوال العصاب الخبيث، بالغ الشدة، فإن المقاومة تكون عميقة الجذور، لأن على المصاب أن يعترف لنفسه ولكثيرين من البشر أنه أو أنها شخص نرجسي تماماً، وأنه لا يهتم في الحقيقة بأي حد. وبكلمات أخرى، عليه أن يحارب الفراسة بقوة أعظم بكثير من قوة الشخص الذي يكابد العصاب غير الخبيث.‏
ما منهج الشفاء للعصاب بالغ الشدة؟ إنني لا أعتقد أن المشكلة هي في أساسها تقوية الأنا. وأعتقد أن مشكلة الشفاء تكمن فيما يلي: أن يجابه المريض الجانب القديم غير العقلي من شخصيته بالجانب السليم، الراشد، الطبيعي وأن هذه المجابهة عينها تخلق النزاع. وهذا النزاع ينشّط القوى التي على المرء أن يتخذها إذا كان لديه الرأي أنه يوجد ثمت شخص ـ بقوة تزيد أو تنقص، وأعتقد مرة أخرى أن المجاهدة من أجل الصحة، المجاهدة من أجل التوازن الأفضل بين الشخص والعالم إنما هي عامل تكويني. وعندي أن ماهية الشفاء التحليلي تكمن في صميم النزاع الذي يُحدِثه التقاء الجانب العقلي مع الجانب غير العقلي في الشخصية.‏
وإحدى عواقب التقنية التحليلية هي أن على المريض أن يسير على سِكّتين: فعليه أن يَخبُر نفسه بوصفه طفلاً صغيراً، ولنقل ابن سنتين أو ثلاث سنوات بحيث يكون في حالة لا شعورية، ولكن عليه في الوقت نفسه أن يكون شخصاً بالغاً مسؤولاً يواجه هذا الجانب في نفسه، لأنه في هذه المجابهة يكتسب الإحساس بالصدمة والإحساس بالنزاع والإحساس بالحركة الذي هو ضروري للشفاء التحليلي.‏
ومن وجهة النظر هذه فإن المنهج الفرويدي لا يسدّ الحاجة. وأعتقد أننا نجد هنا تطرفين: والتطرف الفرويدي هو أن يجعل وضعًُ الأريكة، وقعود المحلل خلفها وما إلى ذلك المريضَ طفلاً بصورة مصطنعة، وهي الطقسية الكاملة للحالة. وقد توقّع فرويد، وفسّر رينيه سبيتس Rene Spitz هذا التوقع في مقالة له، أن هذا هو الغرض الحقيقي للتحليل النفسي، وهو جعل المريض طفلاً بصورة مصطنعة حتى يَبرز أكثرُ المادة اللاشعورية. وأعتقد أن هذا المنهج يشكو من أن المريض لا يجابه بهذه الطريقة نفسه مع المادة الطفولية القديمة؛ فيصبح لا شعورَه، يصبح طفلاً. كل هذا يخرج، كل هذا يدخل، ولكن المريض ليس هناك.‏
ولكنه ليس صحيحاً أن المريض طفل صغير. إن المريض (ولنفترض في الحال أنه ليس ذُهانياً خطيراً) هو، في الوقت نفسه، كائن بالغ عادي، لديه إحساس، ولديه ذكاء، ولديه كل أنواع الاستجابات التي تليق بكائن طبيعي. ولهذا يستطيع أن يستجيب لهذا الكائن الطفلي فيه. فإذا لم تحدث هذه المجابهة، كما لا تحدث عادة في المنهج الفرويدي، لم يظهر بالفعل هذا النزاع، ولم يتحرك هذا النزاع، وفي رأيي أن شرطاً من أهم شروط الشفاء التحليلي ينعدم في هذه الحالة.‏
والتطرف الآخر المبتعد عن فرويد هو منهج العلاج النفسي الذي يسمى في بعض الأحيان التحليل كذلك والذي يفسُد فيه الأمر كله ويؤول إلى محادثة بين المحلِّل والمريض البالغ، حيث لا يظهر الطفل على الإطلاق، وحيث يخاطَب المريض وكأنه لم تكن فيه تلك القوى القديمة، وحيث يأمل المرء أنه بنوع من الإقناع، وبأن يكون لطيفاً مع المريض ويقول له: "كانت أمك سيئة، وكان أبوك سيئاً، ولكنني سوف أساعدك، وستجد نفسك آمناً" سوف يشفيه ذلك. والعُصاب الخفيف جداً يمكن أن يشفى بتلك الطريقة، ولكنني أعتقد أن ثمت مناهج أقصر من خمس سنوات. وأعتقد أن العصاب الخطير لا يشفى ما لم تُنبش، كما قال فرويد، وتُكشف المادة اللاشعورية الكافية التي لها صلة وثيقة به.‏
وما أقترحه هنا هو ببساطة أن الوضع التحليلي هو بالنسبة إلى المريض وإلى حد ما بالنسبة إلى المحلِّل وضع ينطوي على المفارقة، فليس المريض مجرد الطفل والشخص غير العقلي الذي لديه كل أنواع الأُخيولات المهوَّسة، ولا مجرد الشخص البالغ الذي يستطيع المرء أن يحادثه بذكاء عن أعراضه المرَضية. فلابد للمريض من أن يكون في الساعة نفسها وفي الآونة ذاتها قادراً على أن يَخبُر نفسه بوصفه كليهما، ولهذا يَخبُر المجابهة القوية التي تهيئ شيئاً للخروج.‏
وعندي أن المسألة الأهم فيما يتعلق بالشفاء هي النزاع الحقيقي الذي تُحدِثه هذه المجابهة في المريض. وهي لا يمكن أن تتحقق نظرياً أو بمجرد الكلمات. وحتى لو تلقّى المرء أمراً بسيطاً، كأن يقول المريض: "كنت خائفاً من أمي"، فماذا يعني ذلك؟ إنه نوع من الخوف الذي تعوّدناه جميعاً؛ فنحن نخاف المعلم، والشرطي، ونخاف أن يؤذينا شخص ما ـ إنه ليس أمراً يهتز لـه العالم. ولكن قد يكون ما يعنيه المريض عندما يقول إنه كان خائفاً من أمه يمكن أن يوصف، مثلاً، بهذه المصطلحات: "أُوضَع في قفص. ويوجد أسد في ذلك القفص. ويضعني أحدهم فيه ويغلق الباب، فبماذا أشعر؟" إن هذا هو ما يبرز بالضبط في الأحلام، أعني التمساح أو الأسد أو الببر الذي يحاول مهاجمة الحالم. ولكن استخدام كلمات "كنت خائفاً من أمي" تقصّر عن ضرورة التغلّب على الخوف الحقيقي للمريض.‏

TAG

عن الكاتب :

أستاذ الاجتماعيات، شاعر،كاتب،إعلامي، وفاعل جمعوي للتصال الاكتروني :jilaliprof@gmail.com

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *