-->

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي - الفصل الثالث

الفصل الثالث العوامل التكوينية والعوامل الأخرى للشفاء 
أصل الآن إلى بعض العوامل الأخرى، بعضها مؤاتٍ وبعضها غير مؤات. أولاً، العوامل التكوينية. وقد أشرت من قبل إلى أنني أعتقد أن العوامل التكوينية مهمة للغاية. وفي الواقع، لو سألتموني عن العوامل التكوينية قبل ثلاثين سنة وكنت قد سمعت شيئاً أقوله لكنت مُقِلاًّ جداً؛ وكنت سأدعو ذلك نوعاً من التشاؤم الرجعي أو الفاشي الذي لا يسمح بالتغيير وغير ذلك. ولكنني في بضع سنوات فقط من الممارسة التحليلية أقنعت نفسي ـ لا على أساس نظري، لأنني لا أعرف حتى أي شيء عن نظرية الوراثة، بل من خلال تجربتي ـ أنه ليس صحيحاً أبداً افتراض أننا نستطيع أن نفسّر درجة العصاب بمجرد أنها متناسبة مع الظروف الصادمة والبيئية.‏
سيكون كل شيء على ما يرام لو أنه كان عندك مرضى بالجنسية المثلية واكتشفت أن للمريض [منهم] أماً قوية جداً وأباً ضعيفاً جداً، ثم تكوّنت لديك النظرية التي تفسّر الجنسية المثلية. ثم كان لديك بعدئذ عشرة مرضى لهم ذلك الأب الضعيف وتلك الأم القوية، ولكنهم لم يتحولوا إلى أناس يَغْشَون الأمثال. إنك بإزاء عوامل بيئية متشابهة لها نتائج شديدة الاختلاف. ولهذا أعتقد حقاً أنه إذا لم تتعامل مع عوامل صادمة بالمعنى الذي كنتُ أتحدثُ به من قبل، فإنك لن تستطيع حقاً أن تفهم نشوء العصاب إذا لم تهتمّ بالعوامل التكوينية، بمعنى أن بعض العوامل التكوينية، إما وحدها، لأنها شديدة القوة، وإما على الأقل بالتعاون مع بعض الشروط، تجعل العوامل البيئية صادمة جداً وغيرها لا تجعلها كذلك.‏
ولا ريب أن الاختلاف بين الرؤية الفرويدية ورؤيتي هو أن فرويد يفكر، حين يتحدث عن العوامل التكوينية، في العوامل الغريزية من حيث الأساس، على أساس نظرية اللبيدو. وأنا أعتقد أن العوامل التكوينية تتجاوز ذلك كثيراً. ولا يمكنني أن أحاول هنا أن أشرح ذلك الآن أكثر، وأعتقد أن العوامل التكوينية تشمل لا مجرد العوامل، التي تُعرَّف غالباً بأنها المزاج ـ سواء بمعنى الأمزجة اليونانية أو بالمعنى الذي أراده شيلدون Sheldon، بل كذلك عوامل كالحيوية، ومحبة الحياة، والشجاعة، وأموراً كثيرة أخرى لا أريد حتى أن أذكرها. وبكلمات أخرى، أعتقد أن الشخص، في نيله حظه من الصِّبغيات (الكروموسومات)، يجري تصوُّر أنه كائن شديد التحديد. ومشكلة حياة الشخص هي، حقاً، ما تفعله الحياة لذلك الشخص المعيّن الذي يولد بطريقة معينة. وفعلاً، أعتقد أنها ممارسة بالغة الجودة أن يتفكر المحلل ماذا من شأن هذا الشخص أن يكون لو كانت شروط الحياة مؤاتية لما جرى تصوُّر أن يكونه ذلك النوع من الكائن، وما هي التعويجات والأضرار التي قامت بها الحياة والظروف نحو ذلك الشخص المخصوص.‏
وضمن العوامل التكوينية المؤاتية تقع درجة الحيوية، وخصوصاً درجة محبة الحياة. وأنا شخصياً أعتقد أن المرء قد يصاب بعصاب خطير نوعاً ما، مع قدر كبير من النرجسية، وحتى مع قدر كبير من الارتباط بسفاح الحُرُم، ولكن إذا كانت لدى المرء محبة الحياة كانت لـه صورة مختلفة كل الاختلاف. ولنقدم مثالين: أحدهما روزفلت والآخر هتلر. وكان كلاهما نرجسياً، ولا خلاف أن نرجسية روزفلت أقل من نرجسية هتلر ولكنه نرجسي بصورة كافية. وكان كلاهما مفرط التعلق بالأم، وعلى الأرجح أن تعلّق هتلر كان على نحو أخطر وأعمق من روزفلت. ولكن الاختلاف الحاسم هو أن روزفلت كان إنساناً مترعاً بمحبة الحياة، وكان هتلر مترعاً بمحبة الموت، وكان هدفه هو التدمير ـ وهو هدف لم يكن يصل إلى حد الهدف الشعوري، لأنه اعتقد في سنوات كثيرة أن هدفه هو الخلاص. إلا أن هدفه كان التدمير حقاً، وكل شيء يفضي إلى التدمير كان يجذبه. ـ وهنا ترون شخصيتين يمكن أن تقولوا إن عامل النرجسية، وعامل التعلق بالأم كانا موجودين فيهما بصورة واضحة، وإن كانت مختلفة. ولكن المختلف كل الاختلاف كان المقدار النسبي من البيوفيليا والنكروفيليا. وعندما أرى مريضاً يمكن أن يكون مريضاً تماماً، ولكنني أرى فيه كميات من البيوفيليا، أكون متفائلاً تماماً. وعندما أرى فيه بالإضافة إلى كل شيء آخر القليل جداً من البيوفيليا ولكن مع قدر كبير من النكروفيليا، أكون من ناحية التنبؤ بمآل المرض متشائماً تماماً.‏
وتوجد عوامل أخرى تؤدي إلى النجاح أو الإخفاق أود الآن أن أذكرها باختصار. وهي ليست عوامل تكوينية، وأعتقد أنها يمكن أن تُختبر بالأكثر في الجلسات الخمس أو العشر الأولى من التحليل.‏
(آ) إن المرء إذا كان مريضاً فقد وصل حقاً إلى غور معاناته. وأعرف معالجاً نفسياً لا يعالج إلا المرضى الذين اجتازوا كل منهج علاجي يمكن أن يوجد في الولايات المتحدة، وإذا لم ينجح عملياً أي منهج آخر، قَبِل المريض. وذلكم عذر بارع جداً لإخفاقه ـ ولكنه في هذه الحال اختبار حقاً، أي أن المريض قد ذهب إلى غور معاناته. وأعتقد أن اكتشاف ذلك من الأهمية بمكان. وقد تعوّد سوليفان Sullivan أن يؤكد هذه المسألة كثيراً جداً، ولو بمصطلحات مختلفة قليلاً: على المريض أن يثبت لماذا يحتاج إلى المعالجة. وهو لم يعنِ بذلك أن على المريض أن يقدّم نظرية في مرضه، أو أي شيء من هذا القبيل. ومن الواضح أنه لم يقصد ذلك. بل قصد أن على المريض ألا يأتي وفي رأسه هذه الفكرة: "طيب، أنا مريض. وأنت محترف يَعِدُ بشفاء المرضى، أنا موجود هنا". وإذا كنت سأضع على جدار مكتبي أي شيء، فسأضع عبارة تقول: الوجود هنا ليس كافياً.‏
وهكذا فإن مهمة التحليل الأولى شديدة الأهمية: مساعدة المريض على أن يكون متكدّراً بدلاً من تشجيعه. وفي الواقع فإن أي تشجيع على أن يخفّف معاناته، ويلطّفها، هو قطعاً ليست لـه دلالة؛ وهو حتماً سيئ لمزيد من التقدم في التحليل. ولا أعتقد أن أي امرئ تكون لديه مبادرة كافية، ودافع كافٍ، للقيام بالمجهود الهائل الذي يقتضيه التحليل ـ إذا قصدنا التحليل على الوجه الصحيح ـ ما لم يكن مدركاً المعاناة القصوى التي فيه. وليست تلك بالحالة السيئة أبداً. إنها حالة أفضل بكثير من أن يكون المرء في عالم غامض لا يكون فيه متألماً ولا سعيداً. والألم هو على الأقل شعور حقيقي جداً، وهو جزء من الحياة. وعدم إدراك الألم ومراقبة التلفزيون، أو أي شيء هو أمر خارج الصدد.‏
(ب) ثانياً، الشرط الآخر هو أن يكتسب المريض أو أن تكون لديه فكرة ما عما ينبغي أن تكون عليه الحياة، أو يمكن القول ـ رؤية لما يريد. وقد سمعت عن مرضى جاؤوا إلى المحلل لأنهم لم يستطيعوا أن يكتبوا الشعر. وهذا أمر فذّ قليلاً، على الرغم من أنه شديد الندرة كما يمكن أن يتوقّع المرء. ولكن الكثيرين من المرضى يأتون، لأنهم ليسوا سعداء. وليس كافياً تماماً ألا يكونوا سعداء. ولو قال لي مريض إنه يريد أن يحلَّل لأنه غير سعيد لقلت له، "طيب، معظم الناس ليسوا سعداء". إن ذلك ليس سبباً كافياً تماماً لتمضية السنوات في عمل مُجهِد ومتعب وصعب مع شخص واحد.‏
وليس الحصول على فكرة عما يريد المرء في الحياة مسألة تعليم أو مسألة فطنة. فيمكن أن يكون من الصحيح جداً ألا تكون للمريض رؤية لحياته. وعلى الرغم من أنظمتنا التعليمية الغامرة فالناس لا يحصلون فيها على أفكار كثيرة عما يريدونه في الحياة. ولكنني أعتقد مع ذلك أنها لمهمة التحليل النفسي كذلك في بدء التحليل النفسي أن يختبر هل المريض قادر على تكوين فكرة ما عما تعنيه الحياة غير أن تكون أسعد. وهناك كلمات كثيرة يستخدمها الناس في مدن الولايات المتحدة الكبيرة: إنهم يودّون أن يعبّروا عن أنفسهم، وما إلى ذلك بسبيل ـ حسناً، إنها صيغة كلام. فإذا تلهّى أحدهم بالموسيقى وأحبّ التسجيلات المطابقة للأصل وهذه القطعة، أو تلك، أو غيرها ـ فهذه مجرد عبارات. وأعتقد أن المحلل لا يمكن أن يكون راضياً بهذه العبارات، ويجب ألاّ يكون راضياً، بل عليه أن ينصرف إلى الواقع: ما هو في الحقيقة توتّر هذا الشخص ـ ليس نظرياً ـ بل ماذا يريد أو تريد حقاً، من أجل ماذا يجيء أو تجيء.‏
(ج) إن العامل المهم الآخر هو جدّية المريض. وإنكم لتجدون أناساً كثيرين من النرجسيين الذين لا يخوضون التحليل إلا لأنهم يحبون أن يتحدثوا عن أنفسهم. وفي الواقع، في أي مكان آخر يمكنكم القيام بذلك؟ إنه لا زوجة المرء ولا أصدقاؤه. ولا أولاده سوف يُصغون إليه في خلال الساعة وهو يتكلم عن نفسه: ماذا فعلتُ أمس، ولماذا فعلتُه، وهلم جرا. وحتى قيّم الحانة لن يصغي طويلاً لأن هناك زُبُناً آخرين. ولذلك يدفع المرء ثلاثين أو خمسين دولاراً، أو مهما كان الأجر، فيكون للمرء إنسان يصغي إلى كلامي كل الوقت. وحتماً عليّ أن أتمسّك، عندما أكون مريضاً، بأن أتكلم عن الموضوعات ذات المتات السيكولوجي. وهكذا يجب ألا أتكل‍ّم عن الصور واللوحات والموسيقى؛ يجب أن أتحدث عن نفسي، ولماذا لم أحبب زوجي أو زوجتي، ولماذا أحبه أو أحبها، أو ماذا لا أحب. والآن، فإن ذلك لابد أن يكون مستبعداً كذلك، لأنه ليس سبباً كافياً للمحلل، بالرغم من أنه سبب وجيه لجني المال.‏
(د) العامل الآخر الذي لـه صلة وثيقة جداً بهذا العامل هو قدرة المريض على التفريق بين التفاهة والواقع. وأعتقد أن محادثة جل الناس تافهة. وأفضل مثال يمكن أن أقدّمه على التفاهة هو المقالات التحريرية في "نيويورك تايمز"، إذا كنتم ستسامحونني. وما أعنيه بالتفاهة هنا، ما هو خلاف للواقع، وليس الأمر المفتقر إلى النباهة، بل إلى الحقيقة. فإذا قرأت مقالة في "نيويورك تايمز" عن الوضع الفييتنامي، بدت لي شديدة التفاهة. ولا ريب أن المسألة مسألة آراء سياسية ـ لمجرد أنها غير حقيقية فهي تتعامل مع الاختلافات، حتى إلى درجة أن السفن الأمريكية تطلق النار فجأة على أهداف غير مرئية لا أحد يعلم ما هي. ثم يكون لكل ذلك صلة بالخلاص من الشيوعية وبما يعلم الله ماذا. حسناً، هذا تافه. وعلى نحو شبيه بذلك، فإن الطريقة التي يتحدث بها الناس عن حيواتهم الشخصية تافهة، لأنها تتحدث عن أمور غير حقيقية: زوجي فعل هذا أو ذلك، أو حصل على ترقية أو لم يحصل على ترقية، وهل كان يجب أن أدعو خَدِيني أم لا.... إن كل ذلك تافه لأنه لا يُلمع إلى أي شيء حقيقي، إنه لا يُلمع إلا إلى التبريرات.‏
(هـ) العامل الآخر هو الظروف الحياتية للمريض. كم يمكن أن ينجح في التخلّص من العصاب ـ إن ذلك يعتمد كلياً على الوضع. فالبائع قد يتخلّص من أحد أشكال العصاب الذي قد لا يتخلص منه أستاذ في كلية. وأنا لا أقصد أن السبب هو اختلاف المستوى الثقافي، بل لمجرد أن السلوك النرجسي والعدواني والشديد ليس من شأنه أن يحدث في كلية صغيرة، فهم سيطردونه. ولكنه لو كان بائعاً لأمكن لـه أن يكون ناجحاً للغاية. وفي بعض الأحيان يقول المرضى: "حسناً، يا دكتور، أنا الآن لا أستطيع الاستمرار في ذلك"، ورَدّي المعهود على هذه الملاحظة الاستهلالية هو: "طيب، لا أفهم لماذا لا تستطيع. لقد داومت عليه ثلاثين سنة والكثير من الناس، بل ملايين الناس داوموا عليه حتى نهاية أيامهم، ولهذا لماذا لا تستطيع لا أستطيع أن أفهم. إنني أستطيع أن أرى أنك لا تريد الاستمرار، ولكنني بحاجة إلى دليل يفسّر لماذا لا تريد أو يفسّر أنك لا تريد". ولكن قولك "إنك لا تستطيع" هو ببساطة غير حقيقي؛ وهو كذلك صيغة كلام.‏
(و) المسألة التي أود أن أؤكدها أشد التأكيد هي المشاركة الفعّالة من جانب المريض؟ وأعود الآن إلى ما قلته من قبل. إنني لا أعتقد أن أي شخص يتعافى بالمحادثة ومن دون حتى كشف لا شعوره، كالقدر القليل الذي يحققه المرء في أي أمر مهم من دون بذل المجهود الكبير ومن دون القيام بالتضحيات، ومن دون المجازفة، ومن دون الذهاب ـ إذا كان لي أن أستخدم لغة رمزية كثيراً ما تظهر في الأحلام ـ عبر الأنفاق الكثيرة التي على المرء أن يجتازها في مجرى الحياة. وذلك يعني الفترات التي يجد المرء نفسه في الظلام، الفترات التي يكون المرء فيها مرتاعاً ـ ومع ذلك حيث يكون لدى المرء إيمان بأن ثمت جانباً آخر للنفق، وأنه سيكون ثمت نور. وأعتقد أن شخصية المحلل في هذه العملية بالغة الأهمية؛ أي إذا كان رفيقاً جيداً وكان قادراً على أن يفعل ما يفعله الدليل الجيد إلى الجبل، الذي لا يحمل زبونه إلى الجبل، ولكنه يقول لـه في بعض الأحيان: "هذا درب أفضل"، وفي بعض الأحيان يستخدم حتى يده ليمنحه دفعة صغيرة، ولكن هذا هو كل ما يستطيع أن يفعله.‏
(ي) وهذه المسألة تُفضي بي إلى المسألة الأخيرة: شخصية المحلل. ومن المؤكد أن في مُكنة المرء تقديم محاضرة في هذا الموضوع، ولكنني أريد الآن أن أؤكد بعض الأمور القليلة. وقد جعل فرويد أحدها بالغ الأهمية، ألا وهو غياب الغش والخداع. فيجب أن يوجد شيء في الموقف التحليلي والجو التحليلي يَخبُر به المرء من اللحظة الأولى أن هذا عالم مختلف عن العالم الذي يَخبُره المرء عادةً:إنه عالم الواقع وذلك يعني عالم الحقيقة، عالم الصدق ، من دون غش- وذلك هو كل ما هو ذلك الواقع. ثانياً، يجب أن يَخبُر أنه ليس من المفترض أن يتحدث بالتفاهات، وأن المحلل سوف يلفت انتباهه إلى ذلك، وأن المحلل لا يتحدث بالتفاهات كذلك. ولا ريب أنه للقيام بذلك لابد أن يعرف المحلل الفارق بين التفاهة وعدم التفاهة، وهذا أمر صعب إلى حد ما، ولاسيما في العالم الذي نعيش فيه.‏
والشرط الآخر المهم جداً بالنسبة إلى المحلل هو غياب الاسترسال العاطفي: فالمرء لا يَشفي مريضاً بأن يكون لطيفاً سواء في الطب أو في العلاج النفسي. وقد يبدو ذلك جافياً لبعضهم، وأنا على يقين أنه سيُستشهد بي على قسوة القلب التامة نحو المريض، وعلى التسلّطية وفقدان الحنوّ وما شاكل ذلك. حسناً، قد يكون الأمر كذلك. وإنها ليست خبرتي فيما أقوم به وليست خبرتي مع المريض، لأن فيها أمراً مختلفاً تماماً عن الاسترسال العاطفي، وذلك هو أحد الشروط الأساسية للتحليل: أن يعيش المرء في ذاته ما يتحدث المريض عنه. وإذا لم أعانِ في ذاتي ماذا يعني أن يكون المرء فُصامياً أو مكتئباً أو سادياً أو نرجسياً أو مذعوراً إلى حد لا يطاق، ولو أنني أستطيع أن أعاني ذلك في جرعات أصغر من جرعات المرضى، فإنني لا أعرف عمّ يتحدث المريض أبداً. وإذا لم أقم بتلك المحاولة، فلا أعتقد أنني أكون على اتصال بالمريض.‏
وهناك أناس لديهم فرط حساسية نحو بعض الأشياء. وأذكر أن سوليفان قد تعوّد أن يقول إن مريضاً يطغى عليه القلق لم يأت إلى مكتبه مرة ثانية لمجرد أنه لم يكن لديه تعاطف أو إحساس متبادل معه حيال هذا النوع من الشيء. حسناً، إن ذلك على ما يرام تماماً. وكل ما في الأمر بعدئذ أن المرء لا يعالج هذا النوع من المرضى، ولكن المرء يكون معالجاً جيداً لأولئك المرضى الذين يستطيع المرء أن يشعر بما يشعرون به.‏
إنه لمتطلّب أساسي أن يشعر المحلل بما يشعر به المريض. وذلكم هو السبب الذي يفسّر لماذا لا يوجد تحليل للمحللين أفضل من تحليلهم الناس الآخرين، لأنه في عملية تحليل الآخرين يكاد لا يوجد شيء في المحلِّل لا يَبرز، ولا يُلمس، شريطة أن يكابد المحلِّل أو تكابد المحلِّلة ما يكابده المريض. وإذا فكّر أو فكّرتْ: "حسناً، إن المريض شخص عليل مسكين لأنه يدفع"، فلا ريب أنه يظل مفكراً ولا يكون مقنعاً للمريض.‏
ونتيجة هذا الموقف هي أن المرء بالفعل لا يكون عاطفياً مع المريض، ولكن المرء لا يكون مفتقراً إلى الحنو، لأنه يكون لدى المرء إحساس عميق أنه لا شيء يحدث للمريض لا يحدث فيه كذلك. فلا تكون ثمت مقدرة لدى المرء على أن يكون قضائياً أو أخلاقياً أو ساخطاً عن أَنَفَة حيال المريض متى كابد ما يحدث للمريض وكأنه يحدث له. وإذا لم يعانِ المرء ذلك وكأنه معاناته، فلا أعتقد أنه يفهمه. وفي العلوم الطبيعية بوسعك أن تضع المادة على المنضدة وتستطيع أن تراها حيث هي موجودة وتستطيع أن تقيسها. وفي الوضع التحليلي ليس كافياً أن يضع المريض ذلك على المنضدة، لأنه بالنسبة إليّ ليس حقيقة واقعة ما دمت لا أستطيع أن أراه في نفسي بوصفه أمراً حقيقياً.‏
أخيراً، إنه من بالغ الأهمية أن ترى المريض بطلاً لمسرحية وألا تراه جمعاً من العقد. وفعلاً، إن كل إنسان هو بطل مسرحية. ولا أقصد ذلك بأية طريقة عاطفية. فهنا شخص يولد ومعه مواهب معينة، وهو في العادة يخفق، وحياته صراع هائل من أجل صنع شيء من ذلك الذي يكون معه حين يولد، وهي محاربة للمعوّقات الهائلة. وحتى أشد الناس تفاهة بمعنى من المعاني، إذا نظرت إليه من الخارج، إنما هو جدير بالاهتمام للغاية إذا رأيته بوصفه ذلك الشخص، ذلك الجوهر الحي الذي أُلقي به إلى الدنيا في موضع لا يرغب فيه ولا يعرفه، ويقاتل على نحو ما ويتقدم شاقاً طريقه. وبالفعل، إن الكاتب العظيم هو على وجه الدقة الذي يتميّز بأنه يستطيع أن يُظهر شخصاً يكون تافهاً بمعنى من المعاني ومع ذلك هو بطل بالمعنى الذي يراه به. وحسبُنا أن نقدّم مثالاً واحداً، هو شخصيات بلزاك ـ إن جلها لا تستأثر بالاهتمام ومع ذلك تصبح جديرة بالاهتمام للغاية بقدرة الفنان. ونحن لسنا بلزاكات، ولذلك لا نستطيع أن نكتب هذه الروايات، ولكن يجب أن نكتسب القدرة على أن نرى في المريض مسرحية إنسانية، بل حتى أن نرى ذلك في كل إنسان نهتم به، وليس مجرد شخص يأتي ومعه علامة أ ، ب ، ت ، ث.‏
وفي الختام أود أن أقول شيئاً ما عن التنبؤ بسير المرض. وأعتقد أنه توجد فيما دعوته أحوال العصاب غير الخبيث فرصة للشفاء جيدة جداً، وفي أحوال العصاب الخبيث ليست الفرصة جيدةً جداً. ولا أريد أن أخوض في النسب المئوية الآن لأن ذلك أولاً سر مهني أو سر تجاري، وثانياً على المرء أن يتحدث كثيراً عن ذلك. ومع ذلك أعتقد أنها خبرة مشتركة أن فرص الشفاء من العُصاب الخبيث، الخطير ليست جيدةً جداً. ولا أعتقد أنه يوجد أي شيء يدعو إلى الخجل بخصوص ذلك. فإذا كان لديك في الطب مرض خطير وكانت لديك، لنقل، فرصة شفاء بمنهج معين نسبتها خمسة بالمائة ـ وأظن أن الفرص في التحليل حتى أفضل قليلاً ـ شريطة ألا يوجد منهج أفضل وهذا كل ما بوسع الطبيب أن يفعله، فإن كل شخص، الطبيب، والمريض، وأصدقاءه، وأقاربه، إن كل شخص سوف يبذل أقصى الجهد لتحقيق الصحة، ولو أنه لا توجد إلا فرصة نسبتُها خمسة بالمائة. فمن الخطأ ألا ترى الفارق بين العُصاب غير الخبيث والعصاب الخبيث وأن تكون في حالة من شهر العسل في البداية وتفكر: "حسناً، التحليل يشفي كل شيء". أو إذا حاول المحلل أن يخدع نفسه بطريقة أو بأخرى، في نظره إلى المريض، بأن تلك الأمور ليست خطيرة وأن الأمل في شفائها ليس بقليل كما هي في بعض الأحيان. وحتى في تلك الأحوال التي يتعافى فيها المريض، فإن شرطاً واحداً على الأقل يكون قد تحقق في التحليل الجيد، وذلك هو أن الساعات التحليلية، إذا كانت حية ومهمة، سيكون من شأنها أن تكون أهم وأفضل الساعات التي قضاها في أي وقت من حياته. وأعتقد أن ذلك لا يمكن أن يقال حول المعالجات الكثيرة، وأنه على الأقل عزاء للمحلل الذي يجاهد مع مرضى تكون فرصة الشفاء لديهم على الأغلب شديدة الانخفاض فعلاً.‏
وفي أحوال العُصاب غير الخبيث تكون الفرصة أفضل بكثير. وبودي أن أقترح التفكير ملياً في أنه بين أشكال العُصاب الخفيفة يمكن أن يشفى الكثير منها ولكن بمناهج أقصر بكثير من سنتين في التحليل؛ أي بامتلاك الشجاعة في استخدام الاستبصار التحليلي لمقاربة المشكلة على نحو شديد المباشرة، ومن الممكن أن يقوم المرء في عشرين ساعة بما يشعر أنه مرغم على القيام به، بوصفه محللاً، في مائتي ساعة. ولا داعي إلى الاستحياء الكاذب من استخدام المناهج المباشرة حين يمكن استخدامها.‏

TAG

عن الكاتب :

أستاذ الاجتماعيات، شاعر،كاتب،إعلامي، وفاعل جمعوي للتصال الاكتروني :jilaliprof@gmail.com

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *