اخر الاخبار

السبت، 6 نوفمبر 2010

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي - الفصل الثامن

إن تعبئة طاقات الفرد الكامنة هي بالفعل المسألة المركزية في العمل التحليلي كله. وبوسعي أن أقدّم مثالاً على ذلك. أذكر رجلاً في أربعينياته جاء إليّ وقال : " طيب، ما الفرصة التي لديّ لأتعافى؟" وكان يحيا ويتحمل بعض الأعراض العصابية ولكنه تخبّط وأدى العمل الموكل إليه. قلت له:"بصراحة إذا كانت المسألة مسألة مراهنة فلن أراهن على أنك سوف تتعافى، لأنك عشت وتحملّت بعض المشكلات أربعين سنة وليس ثمت موجب أن تُجنّ أو تموت باكراً. ولذلك ستعيش ثلاثين سنة أخرى على النحو نفسه وستكون شقياً ولكن كما احتملت إلى الآن، لماذا لن تحتمل في بقية عمرك؟ من الواضح أن ذلك ليس سيئاً." ثم قلت لـه :" إذا كانت لديك إرادة قوية إلى أبعد حد وأردت حقاً أن تغيّر حياتك، فحينئذ ثمت إمكانية؛ وأنا راغب في هذه المناسبة أن أحلّلك، ولكن إذا سألتني عن اعتقادي الموضوعي حول الفرصة المتاحة، فليس من المحتمل جداً أنك سوف تنجح." ـ وإذا كان يوجد شيء يمكن أن يشجِّع مريضاً فهو هذا. ولكن إذا ثُبّطت عزيمته فقد يكون الأفضل ألا يبدأ، لأنه إذا كان لا يستطيع اتخاذ ذلك فإنه سيفتقر إلى الدافع الأساسي، أي أن تكون لـه القوة لحشد طاقته.
وما قلته الآن لا يصدق على كل الأحوال. فهناك مثلاً أناس يكونون شديدي الارتياع، ومصابين بوسواس الخوف من المرض ومذعورين وقلقين فإذا قلتَ لهم أن يدخلوا في الذعر منعهم ذلك من التفكير. وفي أحوال كهذه عليك أن تستجيب بطريقة مختلفة. وأنا أتكلم عن ذلك بمعنى عام لأوضح أهميته، لا في التحليل وحده بل في كل الحياة، وليروا ذكاءهم بوضوح. وإذا سأل المرء لماذا يخفق جل الناس في الحياة، فأعتقد أن السبب هو أنهم لا يعرفون متى تأتي اللحظة الحاسمة. وإذا عرفتُ الآن أنني إذا قمت بذلك ـ ولنقل : أن أقبل رشوة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ فسأنتهي إنساناً محطماً لأنني سأستمر في قبول الرشوات، وسأخضع، وسأنتهي في مآل الآمر إنساناً محطماً شقياً. وإذا كنت أعرف ذلك فإن من شأن هذا المعنى للمعافاة وطاقات الطوارئ أن يعمل بما فيه الكفاية في الكثير من الناس لجعلهم يقررون "لا". ولكن تفضيل التبرير العقلي يكون بالقول: "حسناً، هذه مجرد خطوة واحدة، وهي ليست شديدة الأهمية، فيمكن لي في آخر الأمر أن أقوم بها، ويظل بوسعي أن أتبدّل." وبذلك لا تكون في حياة الكثيرين من الناس لحظة يكونون مدركين فيها، وهم في حالة المقدرة ـ إنه قرار يدركونه بعد فوات الأوان. ثم بوسع المرء فعلاً وهو يستعرض الماضي أن يقول إن حياتهم كانت محَّددة ولم تكن لديهم الفرصة للحرية. ولكنك لا تستطيع أن تقول ذلك إلا في حالة إعادة النظر في الماضي. فإذا كانوا قد رأوا الوضع وواجهوا أنهم حين يمضون في ذلك السبيل فإن هذا سيؤدي إلى هذه النتيجة، وستكون لديهم بالفعل فرصة مختلفة كلياً لأنه لم يكونوا ذلك المريض ولم يتحطموا.
وفي الحديث عن التحليل أرى أنه من بالغ الأهمية أن يُظهر المحلل للشخص الذي يحلله الخيارات الحقيقية، بشدة بالغة ومن دون تحفّظ، وربما يعبّر عن ذلك بلغة محترسة فيقول ذلك ولا يقوله. وإذا كانت لدى الشخص المحلَّل مقاومة وكان لا يريد أن يرى بوضوح، فإن استخدام الكلمات غير الواضحة تماماً يُفضي إلى  ألا يسمع شيئاً لأنه لا يريد أن يسمع أي شيء. فعليك أن تصيح، وفي بعض الأحيان حرفياً؛ ولكنني لا أقصد ذلك حرفياً؛ فالصيحة بمعنى القول الذي لا يستطيع أن يتجاهله، والذي عليه أن يستجيب لـه لأنه شديد التحدي.
والسبب الأهم الذي يجعل لإدراك المرءِ ذاتَه، لإدراك المرء الحقيقي كاملَ الوضع، فرصة التغيّر، هو أنه يسمح لهذه الطاقات التي هي رهن الاستخدام أن تعمل. فإذا لم تكن موجودة، وإذا كانت في ذلك الوقت ميتة، فعندئذ لا شيء بمقدور المرء أن يفعله. على المرء ـ والمحللين بوجه خاص ـ أن يكون لديه إيمان بوجود هذه الطاقات من دون أن يكون أخرق. وهناك أناس كثيرون تكون فيهم شديدة الضعف فلا يوجد شيء أكثر يفعلونه ـ وقد تكون المسألة مسألة عمر، وقد تكون مسألة إخفاض قيمتك كثيراً من قبلُ بحيث لا ترى وجود مزيد من الأمل. وسيكون من الحماقة أن تقول، من قبيل العقيدة المسلَّم بها أو المبدأ، إن هذا الشخص سوف يستجيب إيجابياً لكامل المواجهة مع حياته. فقد لا يستجيب، ولكن قد يساعده ذلك إجمالاً على إدراك أين هو ذاهب، وعلى إدراك الخيارات في وجوده الكلي. إن هذا هو أحد أهم واجبات المحلل.
ومساعدة المحلَّل على إدراك خياراته هي جزء من تحليله. إنها لا تعبّر عن أحكام قيمية؛ فهذه مجرد إبانة ـ وأنا في الحقيقة أستطيع أن أبينها في أي مجال آخر ـ أن هذه قوى وإذا سرتَ على هذا النحو حدث هذا، وإذا سرتَ على ذلك النحو حدث ذلك. هذان هما الخياران اللذان في ذاتهما يحددان عدم وجود سبيل آخر. ويعتقد معظم الناس ويشعرون بالنسبة إلى هذه الحقيقة أنه يوجد الحل المتعذّر على الدوام.
أنت تريد أن تكون حراً وتريد أن تكون في الزريبة مع أبويك. تريد أن تكون حراً وتريد أن تكون متكلاً. إن هذا لا يحدث؛ فأنت لا تستطيع، إنه مجرد وهم. كما لا يمكنك أن ترى أناساً مستقلين وأحراراً وفي الوقت نفسه تسخّفهم الإعلانات العامة ونوع الأمور التي يتعلمها الناس. لا يمكن لك الجمع بين الأمرين، إلا أن معظم الناس يريدون التوفيق بينهما ويمكن لك أن تقول، إن الرغبة في التوفيق هي شكل من أشكال المقاومة. ومادمت آمل في المعجزة، التي تعني الحل المتعذّر، الذي هو محال واقعياً إذا وُجد، فمن الطبيعي ألا تكون لي فرصة عمل أي شيء.
أولاً إن مفهوم التصعيد كله هو من أكثر المفهومات إثارة للشك. وأنا أشك كثيراً جداً في وجود شيء في الحقيقة  من قبيل التصعيد. بيد أنه مفهوم شديد الشعبية، وهو يسري بسهولة فائقة. التصعيد ـ إنك تفكر في رد الفعل الكيميائي. وهنا تملك أساس دوافعك، ثم يجري تصعيدها كلها.
وأود أن أوضح شكوكي بمثال بسيط. لقد كان المفهوم التحليلي النفسي هو أن الجرّاح يصعّد ساديته أو – في الصيغة اللاحقة –غريزة الموت عنده. أي أن لديه حقاً دافعاً إلى الإيذاء، دافعاً إلى التعذيب، ولكن بدلاً من التعبير عنه مباشرة يعبّر عنه، كما يقول فرويد، على مستوى بعيد عن التعبير اللبيدي المباشر، وفي تلك الآونة يختبئ. وأظن من دون أدنى ريب أن الأمر ليس كذلك. إن للجرّاح باعثاً مختلفاً كل الاختلاف. ولا شك أنه يوجد جراحون تحرضهم رغبتهم في الإيذاء، ولكنني على يقين أنهم أسوأ الجراحين في العالم؛ ويقومون بعمليات جراحية بالغة الرداءة.
وعلى الضد فالجراح تحرضه الرغبة في العمل السريع، والشفاء السريع، وموهبة اتخاذ القرارات السريعة وموهبة خفة اليدين التقنية، وعلى ذلك فهو يعمل بمقتضى دوافع أو على أساس من مواهب ورغبات إنسانية طبيعية جداً.  وهذه هي السُّبل التي تسير فيها مواهبه، وذلك هو السبب في أنه هادئ وموضوعي وشديد التعقّل في عمله الجراحي. ولو كان الجراح سادياً مختفياً لكان من شأنه أن يفتقر إلى هذه الخصائص تماماً، ولكان لديه نوع من اللذة الخفية، ولكان أجرى عملية جراحية حين لا يقتضي الأمر ذلك، ولكان شقّ الناس حين لا ينبغي ذلك، و لكان مدفوعاً بالدافع الذي يصعّده: فهو موجود. ولا يخرج فجأة عن العدم. وعلاوةً، يجب القول، إنك قد تصعّد ساديتك ولكنك تظل شخصاً سادياً. ولنقل إن السؤال هل لدى الجراحين في الغالب طباع سادية أكثر من المحللين النفسيين يظل مسألة مفتوحة أكثر من مسألة أي فرع طبي آخر، أو بالله عليكم، من مسألة المدرّسين.
وإذا قال المرء إن الكثيرين من المدرّسين ساديون يودون السيطرة، فذلك صحيح تماماً، ولكنني لا أعتقد أن المرء يمكن أن يقولوا إنهم مصعَّدون، إنهم يقدّمون التعبير المباشر عن ساديتهم في الأشكال الوافية ضمن الظروف. ويضرب بعض المعلمين الأطفال، بعنف، في أنظمة لا يعاقَبون فيها على ذلك، ولا يوجد شيء من التصعيد له. والآخرون يؤذون تماماً احترام الذات عندهم، ويؤذون حساسياتهم، ويجرحون كرامتهم، ويفعلون بالكلمات ما يفعل غيرهم بالعصا. أين التصعيد – ولا في أي مكان؟ إن كل شخص يعبّر عن عاطفته بهذه الأشكال الأقل خطراً ضمن الظروف ولكنها لها بالضبط الوظيفة نفسها. ولذلك بودي القول إن هذا المفهوم الكلي للتصعيد هو حقاً مفهوم لا يمكن الأخذ به.
ويقوم الكثيرون من الناس بأمر ما يريدون التخلّص منه حقاً ولكنهم يقومون بذلك بالفكر، وإذا خَبَرتُ ذلك تماماً فإنه يساعدني على أن أدركه تماماً فأتغلّب عليه. ولكن من الغالب لا توجد وظيفة كهذه. والمرء يعرف ما هي؛ وهي ليست شيئاً جديداً؛ والمرء لا يَخبُرها بأي عمق. وأعتقد أن هذا التفكير هو في أساسه مقاومة. والمرء لا يستطيع أن يغير هذه الأمور بالقوة كذلك.
وهنا أود من جديد أن أقول إن التحليل والممارسة يجب أن يسيرا معاً. ومن شأن أحدهم أن يقول، إنني أوقف ذلك الآن. وأعتقد أن تلك الطريقة هي إحدى طرق حل المشكلة، وقد تكون طريقة جيدة. ومن جهة أخرى فإن الطريقة الأخرى التي حولي – ولنقل، إنني أتبعها لأنني كلما قمت بذلك ازددت معرفة بنفسي – أعتقد أن ذلك تبرير عقلي. ولعل أفضل شيء أن أحاربه، ولكن لأرى ماذا أَخبُر إذا ضيّقتُ عليه، إذا نبذته كمياً؛ ماذا أَخبُر في فعل التخلي عنه، أكثر من أن أتّخذ دوغمائياً خطوة تنهار بعد ثلاثة أشهر لأن المرء لم يكن متأهّباً لها. وبكلمات أخرى يستطيع المرء أن يقول إن تبّدلاً معيناً في السلوك مصحوباً بتحليل التجارب في تبدّله هو، كما أعتقد، أفضل شيء. وهذه هي تقريباً الإجابة التي أستطيع تقديمها عن ذلك ولكن مرة أخرى هي إلى هذا الحد مشكلة عامة تكون الإجابات العامة عنها يعوزها الكثير، لأن المرء لا يستطيع أن يعالجها بطريقة أكثر تخصّصية. ومن ثم فلا إجابة حقاً، من حيث الأساس تكون صحيحة عموماً لأي شخص بصورة خاصة. ففي كل حالة وفي كل شخص تكون الإجابة مختلفة بعض الشيء، ولا يستطيع المرء كذلك أن يتيقّن أن ذلك صحيح.
إن التخلي وتحليل التخلي أكثر قيمة من العمل وتحليل الأعمال الذي لـه صلة بالواقعة التي تكون جديدة. ماذا أَخبُر في الخبرة السادية التي أعرفها؟ من الطبيعي أن على المرء أن يحلل الخبرة السادية إلى سياقها الكامل لا مجرد أن يتحدث عن السادية، بل أن ينظر في كل تفصيلة: بماذا أشعر، ماذا يعني ذلك، ما علاقة ذلك بالنزعات السادية بوجه عام؟ وأنا أفترض أن ذلك قد تمّ بصورة تامة، ولكن متى حدث انكشفت عوامل جديدة إذا رأى المرء ما يحدث إذا تغيّرت. ماذا يحدث إذا تصرفت بطريقة مختلفة؟ لأن هذا يأتي بتجربة جديدة: إنني لم أحاول ذلك بمثل هذه الطريقة حيث حلّلتُ تجربتي في الوقت نفسه.
قد تجد أولاً أن الشخص في عمله هذا يحاول أن يوقفه في لحظة معينة بسبب من هجمة قلق عميق واضطراب عميق. وذلك مسعف للغاية لأننا نستطيع عندئذ أن نرى أن هذا السلوك حماية ضد القلق. ثم يمكن أن نمضي ونحلل القلق. ولكن ما دام المرء مستمراً في القيام بذلك، فإن القلق قد لا يخرج. وفي الواقع فإن هذا يصدق على كل إحباط في الأمور التي يقوم بها المرء؛ وغالباً ما تكون لها وظيفة منع القلق الظاهر من الخروج. وهذا القلق لا يصبح ظاهراً ما لم توقفه. - إنني لا أريد أن يساء فهمي. فليست المسألة هي أن على المرء أن يوقفه و"انتهى". ولكن المقدرة على التخلي عنه هي شرط المزيد من المعالجة والخلاص. كذلك لا أقصد فعل القوة على الإطلاق. ولا أقصد ذلك إلا بوصفه اختباراً: إيقافه أسبوعاً، أسبوعين، ورؤية ما يحدث. وتلك قصة شديدة الاختلاف عن القول إن عليك ألا تقوم بذلك ثانية في وقت من الأوقات. إن ذلك تهديد، وهو ابتزاز، وهو لا يحل مشكلة.
وعموماً فإن الكثير من القلق الذي هو الأساس لنشوء العَرَض يصبح مرئياً، ولا يصبح مكشوفاً إلا عندما يُحبَط العَرَض. لقد قال فرويد ذلك، وأعتقد أنه كان من حيث الأساس مصيباً في ذلك: "إن المعالجة التحليلية يجب إنجازها، في جو الحرمان – في حالة الامتناع عن الكحول والملذّات."  (Freud, 1919a. S. E. Vol. 17, p. 162.) وربما ذهب في ذلك أبعد قليلاً. ولكن إذا كنتَ أصلاً قد أظهرت الشيء الذي تريد أن تحلله ذاته، والذي تريد أن تتخلّص منه، فهناك بالفعل تحديدات كبيرة جداً لما تستطيع عمله تحليلياً، لأنك لا تصل إلى القلق الأصلي. فأنت لا تقف على السؤال عن أية دفاعات بنيتها بَعَرضك، وأية مقاوَمات في هذا العَرَض، وهلم جرا.
وفي رأيي أن الانحرافات يجب ألا تعالج إلا إذا كان الشخص يعاني منها، وذلك يعني، إذا شعر الشخص أن هذا الأمر يشوّشه كثيراً، يشقّق حياته، ويسير ضد قيمه، ويتمنى لو يستطيع أن يكتشف ماله من علاقة بطبعه، وعلاقته بالآخرين. وإلا فإنني لا أرى أنه أمر يجب أن يعالَج. ولكنني أراه مشكلة خطيرة لأنه على المرء أن يسأل نفسه ما هي الصلة – وهذا مهم – بين ما يُدعى الانحراف والعناصر الطَّبعية في نفسه. وإلى أي حد هو نكوص أو تثبّت أو مرحلة يقف فيها المرء في طريق نفسه نحو العلاقة الأكمل، وليس مع النساء أو الناس فقط. إنها إلى حد ما مشكلة شبيهة بمشكلة الجنسية المثلية. وأعتقد أنها تقييد لنمو الشخص، ولكنني مع ذلك أعتقد أنها أقل في ذلك من الانحراف السادي –المازوخي. وهكذا فإن امتطاء حصان شامخ والقول إن اللوطيين ليس لديهم حب حقيقي وأنهم نرجسيون جداً وما إلى ذلك –أي ملعون، من يتكلم؟
لعل أهم أمر في التحليل هو تبيّن المقاومة. ويوجد محلل واحد هو الذي تبيّن هذه المقاومة أولاً وباستقصاء: إنه فلهلم رايش  Wilhelm Reich. وذلك هو في الحقيقة أهم إسهام لـه في التحليل النفسي. وأعتقد أن إسهاماته الأخرى مشكوك فيها أو مدعاة للارتياب. وقد قام بإسهام آخر يعادل ذلك أهمية – فقد كان، بعد غيورغ غرودك  Georg Grodek، الباحث الوحيد الذي رأى أهمية إرخاء الجسد للتغلّب على الكبت. وعندما كتب كتابه تحليل الطبع  Character Analysis (W. Reich, 1933) أكّد ذلك.
إن المقاومة هي إحدى أكثر الأمور مخاتلة، لا في التحليل وحسب، بل كذلك في حياة كل امرئ يحاول أن ينمو، يحاول أن يعيش. ويبدو أن للإنسان نزعتين قويتين جداً. إحداهما التقدم إلى الأمام، ويمكن أن تقول إنه يبدأ من مستهلّ ميلاد الطفل، وهو دافع الانسياق إلى الخروج من الرحم، ولكن هناك في الوقت نفسه خوف كبير من كل ما هو جديد، من كل ما هو مختلف، ويمكن أن تقول إنه خوف من الحرية، خوف من المجازفة، مع ما يعادل ذلك قوة من الميل إلى النكوص، إلى الرجوع، إلى عدم التقدم إلى الأمام. وهذا الخوف من الجديد هذا الخوف مما لم يألفه المرء، هذا الخوف مما هو غير يقيني لأن المرء لم يجربه، إن كل هذا الخوف يعبَّر عنه في المقاومات، في شتى المناورات لمنع المرء من أين يتقدم إلى الأمام، ومن القيام بأمر جريء.
وليست المقاومة مشكلة التحليل وحده أبداً. وفي الحقيقة فإن جُلّ المشكلات المدروسة في التحليل، مثل المقاومة والتحويل، هي أهم بكثير بوصفها مشكلات إنسانية عامة. وهي بوصفها مشكلات تحليلية محصورة نسبياً، فكم يُحلَّل من الناس الكثيرين؟ ولكن المقاومة والتحويل هما على أساس إنساني عام من أقوى القوى الانفعالية الموجودة.
ونحن لا نكون أكثر مخاتلة منا حين نبرّر مقاوماتنا. وليس الأقل من المقاومة هو ما يلقاه التحسّن؛ فأي تحسّن يُنظر إليه بسوء ظن شديد، بدلاً من النظر إليه برضى وفرح. لأنه في كثير من الأحيان لا يخدم التحسّن إلا في أن تبدأ التسوية، وفي إرضاء المرء نفسه: "أنت ترى أنني لست مريضاً كما كنت."، ولكنه في الوقت نفسه يكون كافياً لمنع المرء من القيام بالخطوة الحاسمة التي يمكن أن تحل المشكلة جذرياً بالتقدم إلى الأمام. ولذلك فمن بالغ الأهمية أن يكون المرء متشكّكاً حيال التحّسنات. إن الإحباطات خير من النجاحات، وكما قال نيتشه بشرط أن: "مالا يقتلنا يجعلنا أشد قوة"
Was uns nicht umbringt, macht uns sträker (F. Nitzsche, 1889, nr. 8)    
وهناك هزائم مهلكة، ولكن النجاح الأخطر هو الذي يخفق فيه الناس في النجاح الكلي. وهو غالباً ما يؤدي دور مقاومة المضيّ إلى ما هو أكثر من ذلك.
والآن فإن للمقاومة، ولا ريب، أشكالاً كثيرة أخرى؛ فيعبّر الشخص عن المقاومة بالإفاضة على المحلل بالأحلام، وهكذا من ذلك الحين فصاعداً يستمع المرء إلى الأحلام سنوات؛ وهم حالمون جيدون، ولا يُحلَّل شيء أبداً لأن الحلم شديد الاغتراب؛ ويحلل المرء الحلم ولكنه لا يحلل الشخص.
والشكل الآخر للمقاومة هو الكلام التافه. وكانت فكرة فرويد العظيمة هي وضع التداعي الحر موضع التنويم المغناطيسي. ولذلك أعتقد أنه إذا لمس جبين الشخص وقال: "كلما لمست جبينك قل لي أي شيء يمر بذهنك"، كان ذلك أنجح وأقصر نوع من إيحاء التنويم المغناطيسي. وفي ذلك الكثير من الحقيقة، ولكن في تلك الأثناء تم التخلّي عن ذلك وصارت الصيغة تقول: "قل كل ما يمر بذهنك." وهكذا يتحدث الشخص عن كل تفاهات الحياة، ويكرر مائة ألف مرة ما قالت أمه، وما قال أبوه، وما قاله الزوج، وأي شجار نشب بينهما، والمحلل يستمع بحكم الواجب لأن المريض يتحدث عما يجري في ذهنه. ولا ريب أن ذلك شكل من أشكال المقاومة التي على المحلل ألا يسمح بها، لأنه خارجٌ عن الصدد الاستماعُ إلى التفصيلات المبتذلة عن هذا الشجار أو ذلك وإلى تكرار كل هذه الأمور الشخصية التي هي عديمة الفائدة – مجرد ملء للوقت. إنها في أساسها مقاومة.
وأذكر حلقة بحث في معهد وليم ألانسون هوايت قدّم فيها أحد المحللين مريضة، فاستمعت مدة ساعة ثم قلت: "اسمع الآن، إن هذا بالغ التفاهة، وأنا لا أستطيع أن أفهم كيف يمكنك أن تتحمل الاستماع إلى ذلك مدة ساعة، إن الكلام هو عن الاتصالات الهاتفية التي جرت مع خليلها، وإلى الخلف وإلى الأمام ثم التفسير السيكولوجي، هل كان عليها أن تتصل به أم كان عليها ألا تتصل به، وكأن هذا الأمر ينطوي على أية أهمية." فقال: "حسناً، فقد كانت كثيرة الجدية، وكانت مشكلة حقاً لها." ثم كان بالغ الكرم وقال "لا بأس، لديّ شريط تسجيل." وطلب إليها السماح لـه بإطلاق شريط التسجيل، وبعد خمس دقائق من ابتدائه ضحك الصف كله وضحك هو كذلك لأنه كان واضحاً تماماً من صوتها أنها كانت غير جدية كما يمكن أن يكون أي شخص. لم يكن شيئاً، ولم يكن لـه معنى، ولم يكن فيه إحساس. وبكلمات أخرى، لقد تحوّل التداعي الحر إلى ثرثرة حرة. "والثرثرة الحرة" تكون ميتة قطعاً حالما يبدأ شخص يثرثر ويتكلم عن أمور لا معنى لها باستثناء أنها تعدّ مشكلة سيكولوجية. وكل شيء مشكلة سيكولوجية. وإذن ففي رأيي أن مهمة المحلل هي أن يقاطعه ويقول: "الآن، كل ما تنبئني به هو لمجرد ملء الوقت، وليس لـه قصد؛ إنني ضجر جداً، ولن أستمع إلى هذا." لماذا عليّ الاستماع؟ إنه لأمر طارئ أن أستمع إلى سخافات مملة مدة ساعة وأنت لا يمكن أن تعوَّض عن ذلك. وليس هناك مبلغ هو من الضخامة إلى حد يكفي للتعويض عن هذه التضحية؛ وفي الواقع فإنه لأمر طارئ فعلاً أن أقبل المال مقابل هذا النوع من السخافات.
وفي الكثير من الأمثلة تجد نوعاً من الاتفاق الشَّرَفي أن يكون كلاهما سرياً جداً، ويتفق كلا المريض والمحلل ألا يحرم كل منهما الآخر من نومه. ويريد المريض أن يستوفي الكلام وأن يحلَّل وأن يتحسّن، ويجد نفسه أو نفسها، ويجب أن يكسب المحلل رزقه مهما كان الأمر، وهو لا يريد أن يكون شديد التشوّش كذلك، فكل شيء يجب أن يسير بسلاسة، وهكذا يجدان وضعاً أو مستوى يتكلم فيه المرء عما يسمى المشكلات المهمة، ومع ذلك لا أحد مشَّوش حقاً. وأنا لا أقول الآن إن تلك هي الحالة في كل أنواع التحليل. وسواء أكان التحليل فرويدياً أم غير فرويدي – وذلك لا يشكل أدنى اختلاف، فهو مجرد اختلاف في الاصطلاح اللغوي إن أنت تحدثت مئات المرات عن تعلّقك الشديد بأبيك وأنك مهتم بهذا الصبي لأنه صورة الأب، أو تحدثت عن عدم حصولك على المحبة الكافية من أمك وأن ذلك هو السبب لوقوعك في هوى هذه الفتاة التي تمنحك الكثير من الحب، وكل هذا الهراء. فيظل ذلك لا معنى لـه وإنه لسبب من أهم الأسباب للمقاومة.
إن المشكلة المهمة الأخرى ذات الصلة الوثيقة بالعملية العلاجية هي التحويل. ويكاد التحويل يكون المشكلة الأهم في الحياة الإنسانية،  (Cf. also E. Fromm, 1990a, pp. 45 –52). وإذا سأل المرء لماذا كان الناس يضحّون بأطفالهم لـ "مولوخ" (*)، ولماذا عبدوا أوثاناً مثل موسوليني وهتلر، ولماذا قدّم الناس حياتهم من أجل وثن أيديولوجي، فإن كل ذلك هو ظاهرة التحويل نفسها. والمفهوم الفرويدي للتحويل هو في كليته مفهوم شديد الضيق جداً. وما كان فرويد يعنيه بذلك، وما لا يزال يعنيه جُلّ المحللين، هو ما تقوله الكلمة: إنك تحوّل العاطفة التي كانت تشير ذات حين إلى الناس المهمين في طفولتك –أبيك وأمك –إلى المحلل. وذلك صحيح جداً إلى حد كبير.
وقد مثّل هاري ستاك سوليفان على التحويل بامرأة حلّلها أسبوعاً؛ فبعد أسبوع أبدت هذه المرأة ملاحظة وهي تقول وداعاً: "ولكنك يا دكتور، ليست لك لحية." وكان لسوليفان شارب صغير ولكنه فيما عدا ذلك كان حليقاً.
وقد اعتقدت مدة أسبوع أنه كان ذا لحية، لأنه كان بالنسبة إليها الأب بالفعل إلى حد كبير وكأن الصورة الكلية لأبيها الذي كان ملتحياً قد تحوّلت إليه بصورة مطابقة للواقع. لقد رأت فيه الأب حتى في الظاهر، بصرياً، لأن مشاعرها كانت مفعمة بأنه أبوها، فقد كانا من طبيعة واحدة. إن هذا مفهوم ضيق للتحويل: أحاسيس الطفل المتحولة إلى شخص مهم، شخص آخر. ولكن لعل ذلك ليس ماهية التحويل. فالأهم بكثير هو التحويل بالمعنى الواسع جداً.
يعبّر التحويل عن حاجة شخص إلى وجود من يتولى المسؤولية، والذي يكون أماً، تمنح المحبة غير المشروطة، والذي يكون أباً، يمدح ويعاقب، ويعظ ويعلّم. وحتى إذا لم يمتلك الناس أباً وأماً، ولو لم يكونوا أطفالاً، فإنهم يحتاجون إلى ذلك ما داموا أنفسهم لم يصبحوا بشراً تماماً، ولم يصبحوا أنفسهم مستقلين تماماً. وإذا أردت أن تفهم الحاجة إلى أمثال هؤلاء الناس الذين يعدّهم المرء هداة وحماة وأرباباً وربّات، فليس كافياً أن تفكر في الطفولة. بل عليك أن تدرس الوضع الإنساني الكلي الذي يكون فيه المرء مفتقراً إلى العون كثيراً، وكثيرَ التشوّش وإلى حد بعيد من التضليل الذي يصله عن الحياة من خلال ثقافته، وشديد الارتياع، ومنعدم الثقة إلى حد أن التوق الإنساني العام هو الحصول على شخص تستطيع أن تختاره وثناً لك، وبوسعك أن تقول: "هذا هو إلهي." هذا هو الشخص الذي يحبني، ويرشدني، ويكافئني، لأنني لا أستطيع أن أقف بنفسي.
إن التحويل هو نتيجة إخفاق المرء في حريته ولذلك فإنه نتيجة حاجة المرء إلى العثور على وثن لعبادته، وإلى الإيمان به للتغلّب على خوفه وانعدام ثقته بالعالم. والإنسان البالغ هو إلى حد ما ليس أقل عجزاً من الطفل وهو يمكن أن يكون أقل عجزاً إذا تربّى أن يكون مستقلاً تماماً، إنساناً كامل النمو، ولكنه إذا لم يحدث ذلك، كان بالفعل عاجزاً مثل الطفل، لأنه يرى نفسه محاطاً بعالم ليس لـه تأثير فيه، ولا يفهمه، ويتركه في شك وخوف ولذلك فإنه وهو طفل يَنشد البالغ – الأب أو الأم – ولنقل لأسباب بيولوجية، ويَنشد الشخصُ البالغُ من ينشده الطفل ولكن لأسباب اجتماعية وتاريخية.
والتحويل ظاهرة تجدها في ارتباط الشخص – ولنقل العُصابي أو غير الواقعي بالمحلل النفسي كثيراً، وكذلك بالعديد من الناس الآخرين: بالمعلم والزوجة والصديق والشخصية العامة. وأود أن أعرّف التحويل في التحليل النفسي بأنه الارتباط غير العقلي بشخص آخر والذي يمكن أن يحلَّل بالطريقة التحليلية، أما التحويل في الأوضاع الأخرى فهو تحويل يكون نفسه تماماً، ولكنه ليس متاحاً للتحليل، ليس على منضدة العملية.
وإذا كان أحد الناس معجباً بالقوة، وأراد أن يحميه شخص قوي، فإنك ستجد العبادة نفسها أو المغالاة في التقدير ذاتها منصبّتين على محلله كما هي الحال مع أستاذه، أو مع الشخصية الحكومية، أو مع وزيره أو كاهنه أو غيرهم. إنها الآلية نفسها على الدوام. وليس إلا في تحليل هذا النوع الخاص من الارتباط غير العقلي، الذي ينسجم مع الحاجة إلى ذلك الشخص، يُؤتى بالتحويل إلى التحليل.
وليس التحويل تكراراً بسيطاً؛ إلا أن ما نعالجه هو حاجة شخص إلى العثور على شخص آخر لقضاء هذه الحاجة. فمثلاً، إذا كنتُ ضعيفاً، منعدم الثقة، خائفاً من المجازفات وخائفاً من القرارات – فقد أريد أن أجد شخصاً واثقاً بنفسه، صاحبَ مبادرة، قوياً، أستطيع أن ألوذ به. ومن الطبيعي أن أنشد ذلك طيلة عمري. إنه سيكون نوعاً من الرئيس أفتّش عنه، أو أستاذاً إذا كنت طالباً – وهذا ما سوف أراه في المحلل. ومن جهة أخرى، فأنا شخص نرجسي جداً يعتقد أي شخص غيره غبياً، فرئيسي غبي، وكل شخص غيره غبي. إن كل هذه الأحوال هي ظاهرة التحويل نفسها، باستثناء أننا في التحليل ندعوها تحويلاً عندما نستطيع أن نحللها.
إن المحلِّل والمحلَّل يلتقيان حقاً على مستويين منفصلين، أحدهما مستوى التحويل، والآخر هو مستوى التحويل المضاد. وفيما يتعلق بالتحويل المضاد فإنه ينطبق على الحالة: التي يكون فيها لدى المحلل كل أنواع المواقف غير العقلية من المريض. فهو يخاف من المريض، ويريد أن يمدحه المريض، ويريد أن يحبه المريض. إن ذلك سيئ جداً، ولا ينبغي أن تكون الحالة على هذه الصورة، بل ينبغي للمحلل أن يكون بتحليله قد حقق موقفاً لا يحتاج فيه إلى كل ذلك الحب، ولكن في الحقيقة ليست هذه هي الحال دائماً.
وأعتقد أن من الخطأ أن نعتقد أن كل ما يجري بين المحلل والمريض هو التحويل. وليس هذا إلا جانباً من العلاقة؛ ولكن الوجه الأهم هو: هناك واقع إنسانين يتكلمان معاً، وهو في زمن الهاتف والمذياع لا يُعدّ واقعاً شديد الخطورة، ولكنه بالنسبة إليّ واقع على أشد ما يكون خطورة. أحد الشخصين يتحدث إلى الآخر. وهما لا يتكلمان عن الأمور التافهة؛ إنهما يتكلمان عن أمر بالغ الأهمية ألا وهو حياة هذا الشخص.
وبغض النظر تماماً عن التحويل والتحويل المضاد، فإن العلاقة العلاجية تتميز بوجود شخصين حقيقيين منهمكين، والمريض الذي لا يكون ذُهانياً يفهم من هو الشخص الآخر والمحلل يفهم من هو المريض، وليس ذلك تحويلاً. وأعتقد أن أحد الأمور المهمة جداً في تقنية التحليل النفسي هو أن على المحلل أن يخربش، إذا جاز التعبير، في دربين: عليه أن يقدّم نفسه بوصفه موضوعاً للتحويل ومحلِّلاً، ولكن عليه أن يقدم نفسه كذلك بوصفه شخصاً حقيقياً ويستجيب بوصفه شخصاً حقيقياً.
يكاد تفسير الحلم يكون أهم أداة لدينا في العلاج التحليلي النفسي. وليس ثمت شيء يقوله المريض من تداعيات وزلقات لسان وغير ذلك لـه ما للأحلام من أهمية في الكشف، وأعتقد كما قال فرويد أن الحلم وتفسير الحلم هما في الحقيقة "السبيل الممهَّد" إلى فهم اللاشعور. وفي مسألة الاختلاف بين فرويد ويونغ، فأنا بالفعل لا أؤيد هذا الرأي ولا الرأي الآخر.
لم يُبدِ فرويد أن الحلم لا يشير إلا إلى الماضي، أي الرغبات النادرة، الرغبات الغريزية، التي تخطر في الحلم ولها جذورها في الماضي وحسب، بل زعم كذلك أن الحلم هو في الحقيقة نصّ محرَّف بالضرورة وأن المعنى الحقيقي للحلم، أي ما دعاه فرويد الحلم الكامن، يجب انتشاله من نص الحلم الظاهر. أما يونغ فقد قال إن الحلم رسالة مفتوحة وليس محرَّفاً. والآن، فأنا لا أعتقد أن ذلك صحيح وأعتقد أن يونغ قد ساء تفسيره للكثير من الأحلام لأنها لم تكن مفتوحة.
وكنت في كتابي اللغة المنسية (1951a) قد وضعتُ أولاً تمييزاً بين نوعين من الرموز، أي بين الرمز العَرَضي والرمز الشامل. فإذا كان حلمي، مثلاً، عن مدينة، أو دار، أو زمن معين، فأنا أتعامل مع رمز عَرَضي، ولا يمكنني أن أعرف ما يقصده الحالم إلا بتداعيات المريض؛ وإلا فلن أعرف ذلك. خذ على سبيل المثال الحلم التالي.
الحلم: يحلم شخص أولاً أنه في بناية كبيرة مغلقة، ثم مع فتاة، ولكنه خائف من أن يتعرّف به الناس، ثم يجد نفسه مع الفتاة على شطّ البحر، سائراً على البحر ولكن الوقت ليل، وفي الجزء الثالث من الحلم يكون مع نفسه كلياً، وعلى يمينه أنقاض وعلى يساره أَجرُف البحر.
ففي هذا الحلم لا تحتاج إلى التداعيات بالضرورة لأن هذا العالم يتعاطى مع الرموز الشاملة. وما نجده في هذا الحلم هو نكوص إلى العمق. ومستواه من الناحية الشعورية هو المستوى الذي يكون فيه مع الفتاة – والمريض متزوج؛ ولكنه في بناية كبيرة، وهي رمز الأم، بيد أنه يظل مع الفتاة، إلا أنه مذعور. ثم لا يزال مع الفتاة، ولكن الوقت ليل، وفي آخر الأمر يكون وحيداً كلياً وليس إلا مع الأم المقطَّعة، أي مع الأجرف المعزولة والأنقاض. وهنا ترى في هذا الحلم أن المشكلة المحورية لهذا المريض قد صيغت، ولا ضرورة لفهم التداعيات أو حتى الاستماع إليها. (إنني أسأل كل مريض عن التداعيات لأنه في هذه الحال تساعدنا التداعيات – وأجد أن الكثير من الأحلام يُكتب فيها
شيء ما.)
وبأخذنا في الاعتبار أن الحلم ليس مجرد رسالة مفتوحة بل هناك أحلام كثيرة يُكتب فيها شيء لـه أهمية، فإن يونغ قد قدّم مثالاً جيداً. ففي أحد أحلامه المذكورة في سيرته الذاتية المنشورة بعد وفاته  (C. G. Jung, 1963)، يحلم يونغ:
... أنه شعر أن عليه أن يقتل زيغفريد. ولهذا يخرج ويقتله. ويحسّ بالذنب الشديد ويكون خائفاً من أن يُكتشف. ومما أرضاه كثيراً أن يهطل مطر غزير ويمحو كل آثار الجناية. ويصحو على شعور: "عليّ أن أكتشف ما يعني هذا الحلم وإلاّ عليّ أن أقتل نفسي." ويفكر فيه ويكتشف أنه في قتل زيغفريد يقتل البطل في نفسه وأن الحلم رمز لتواضعه.
إن هذا الحلم محرَّف فعلاً، لأن الاسم زيغموند  Sigmund (فرويد) قد تحوّل إلى زيغفريد  Siegfried. وكان ذلك كل التحريف الموجود فيه. وكان ذلك كافياً ليونغ، لئلا يرى في هذا الحلم أنه كان يفعل بالضبط ما كان فرويد يقول لـه حول ما يريد فعله، أي قتله. ولم يتوصل حتى إلى إدراك شيء شديد البساطة، وهو شعوره أنه إذا لم يفهم الحلم على الوجه الصحيح فإن عليه أن يقتل نفسه. ولا شك أن ما يعنيه حقاً هو أنه إذا لم يفهم الحلم فهماً صحيحاً، أي رغبته في قتل فرويد، فإن عليه أن يقتل نفسه. ولذلك وجد فهماً هو على النقيض مما يعني الحلم حقاً.
وفي وجوه كثيرة فإن الرموز التي أسميها الشاملة هي النماذج البدئية عند يونغ، ولا يمكن إلا بشيء من الصعوبة التحدث عن يونغ نظرياً لأنه عبّر عن نفسه ببراعة فائقة، ولكن في مرات كثيرة بطريقة غير واضحة تماماً. وكذلك من الصعب التيقّن ماذا كان يقصد تماماً بمفهوماته. ولكن مع ذلك فإن مفهوم النموذج البدئي مفهوم كثير الجدوى. وعلى الأقل ما يشير إليه. كذلك على المرء أن يؤكد من وجهة نظر المذهب الإنساني أن الإنسان ما دام في شرط وجوده الأساسي جداً، أي في انقسامه بين إدراكه وتحدُّده بأنه حيوان ويمتلك مع ذلك الإدراك الذاتي، فإنه ليست لديه إلا حلول قليلة، إجابات قليلة عن السؤال الذي تطرحه عليه الحياة. وقد تكون هذه الإجابات هي النكوص إلى رحم الأم، وقد يكون الجواب هو العثور على الأمن وطاعة الأب؛ وقد يكون الجواب الذي كان إجابة الأديان الكبيرة والفلسفات الإنسانية، أي العثور على الانسجام الجديد مع العالم بتنمية كل قدراته الإنسانية، ولا سيما قدرتي العقل والحب. وبكلمات أخرى، إن عدد الإجابات التي يمكن أن يقدّمها الإنسان عن سؤال الحياة محدود. وعليه أن يختار من بينها، وعدد الرموز التي تمثّل هذه الإجابات محدود أيضاً. وهي رموز شاملة، لأنه لا يوجد إلا إنسان واحد.
وتوجد خيارات قليلة يمكن أن يختارها الإنسان. ومفهوم رمز البطل، مثلاً، يرمز إلى الإنسان الذي يجرؤ على التعرّض لخطر التفرد. أو كما يقول "العهد القديم" إن أبراهام بطل، لأن أبراهام يقول لـه الرب: "دع بلدك، دع بيت أبيك، واذهب، إلى بلد سأريك إياه." [سفر التكوين: 12 ،1] ودائماً يكون رمز البطل الشخص الذي يجرؤ على أن يعرّض كل وجوده للخطر بالاستقلال والذي بهذا المعنى هو جريء، يترك اليقين ويعرّض نفسه لخطر عدم اليقين. إن ذلك في الحقيقة جزء من قدر الإنسان، وهو إحدى إمكانيات الإنسان. والإمكانية الأخرى هي بالضبط عدم الجرأة على مجازفة التفرد وملازمة الأم، أو الوطن، أو الدم، أو التراب وعدم الوصول إلى التفرد وعدم صيرورة الشخص مستقلاً.
وتعتمد مسألة متى وكيف تقول معنى الحلم للمريض على الوضع. وإذا قال لي المريض حلماً في نصف الساعة فمن المتحمل ألا أقول الكثير لأنني سأفترض أنه إذا أعطيته تفسيراً فقد لا يفهمه. ولكن يوجد بعض الناس (ولو لم يكونوا قريبين من الذُهان) يكونون حسّاسين جداً ويحبون الشعر، ومن شأنهم أن يفهموا هذا التفسير لأنهم لا يرتبطون بالشعر ارتباطهم بالأشياء الملموسة. ولكنني قد أقول حتى في نصف الساعة للمريض الذي حلم بالدور الكبيرة والخرائب: "يبدو أنك خائف من الانقطاع عن الحياة وملتصق بالشيء الميت المتهدم الذي لا حياة فيه،" لأن ذلك هو بالضبط ما يكونه.
وتعتمد مسألة كيف استخدمُ الحلم على ما أعتقد أن بوسع المريض أن يفهمه في الوقت الحاضر. ولا أكون محترساً للغاية إلا مع المريض الذي يمكن ألا يفهمه. وسيقول الكثير من الطلبة في حلقات البحث، عندما يقدّمون حالة وأنا أفترض أنهم يقولون شيئاً ما للمريض: "حسناً، ولكنني خائف ألا يستطيع المريض فهمه." ويكون ردي الأول عادةً: "الشخص الوحيد الذي لا يستطيع فهمه هو أنت، لأنك خائف من مدّ عنقك للمريض تخبره بشيء ما، قد يستجيب لـه المريض بغضب، باضطراب، وأنت لست على يقين أنك على صواب – وهي ليست مسألة صواب بالضرورة – ولكنك لست متيقّناً من تفسيرك على نحو يبعث على الرضى." ولكي يفهم المرء معنى حلم من الأحلام حقاً، يحتاج إلى قدر كبير من الخبرة والحساسية وما يمكن أن يدعوه المرء "التقمص العاطفي".


*-مولوخ  Moloch: هو في "الكتاب المقدس" إله بعض الشعوب السامية القديمة، كان يُضحّى لـه بالأطفال بحرقها. (المترجم)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق