اخر الاخبار

السبت، 6 نوفمبر 2010

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي - ـ الفصل السادس

الفصل السادس العوامل المؤدية إلى المفعول العلاجي
علامَ يعتمد مفعول التحليل النفسي العلاجي؟ أود من وجهة نظري أن أقول بإيجاز، إنه يعتمد على ثلاثة عوامل:(1) زيادة الحرية عندما يرى الشخص نزاعاته أو نزاعاتها الحقيقية. [(2) زيادة الطاقة النفسية بعد تحريرها من أن تكون مربوطة بالكبت والمقاومة.(3) تحرير المجاهدات الفطرية من أجل الصحة.]‏
(1) إن مفعول التحليل النفسي العلاجي قائم أولاً على زيادة الحرية التي لدى الشخص عندما يستطيع أن يرى نزاعاته الحقيقية بدلاً من نزاعاته الوهمية.‏
إن النزاع الحقيقي لإحدى النساء (كالمرأة المذكورة فيما بعد) يمكن على سبيل المثال أن يكون عجزها عن إعتاق ذاتها وبدء حياتها، ومن ثم عجزها عن أن تكون حرة. ونزاعها الوهمي هو: هل كان عليها أن تتزوج أم أن تطلّق زوجها؟ وليس ذلك بالنزاع الحقيقي. وهو ليس نزاعاً لأنه غير قابل للحل. فحياتها ستكون تعيسة بطلاقها منه أو بقائها معه؛ وستكون الحياة التعيسة نفسها ما دامت ليست حرة. على أنها ما دامت تركّز على هذه المشكلة الخاصة فإنها لا تستطيع أن تبدأ في فهم حياتها أكثر. وهي لا تستطيع أن تعمل على أساس نزاعها الحقيقي، الذي هو نزاع حريتها، نزاع علاقتها الكلية بالعالم، وافتقارها إلى الاهتمام بالعالم، والضنك الشديد في وجودها الكلي في العالم ـ نزاع كل ما هو بعيد المنال عنها.‏
ولنعبرّ عن ذلك بتشبيه بسيط: إذا أردت أن تفتح الباب بالمفتاح المغلوط فيه، فإنك لن تفتح الباب.فإذا اعتقدت بأنك لم تضع المفتاح في الشكل الصحيح، أو بهذا الأمر أو ذلك، فما دمت تظن أن لديك المفتاح المناسب ولا تعتقد إلا أن المفتاح لا ينسلك على الوجه الصحيح، فإنك لن تفتح الباب. إن عليك الحصول على المفتاح المناسب. وذلكم في الحقيقة تشبيه ضعيف. فكل شخص يعرف أمثلة على ذلك، إذ يكون السؤال هو: هل عليّ أن أفعل هذا أو ذلك حيث يكون هذا السؤال مجرد صراع مزعوم في حين يكون الصراع في موضع ما غيره تماماً. وقد تكون الأمثلة موجودة في حياة المرء أو في حيوات الناس الآخرين، ولاسيما الشيوخ. وأبوا المرء مثالان جيدان على الدوام، لأنهما عاشا مدة أطول وقدّما إليك استبصاراً صميمياً لحياتهما إذا أردت النظر. وعندئذ ترى إلى أي حد يسير الناس في المشكلة المغلوط فيها، محاولين حل أمر حيث لا يمكن العثور على الجواب.‏
وقد يكون المثال التالي توضيحاً لذلك: يتزوج الناس وبعد ثلاث سنوات يحدث نزاع فيحصلون على الطلاق. ماذا يحدث إذن؟ لنقل إن الرجل بعد سنة يتزوج النمط نفسه من النساء وينتهي الزواج بالطلاق وهكذا ولا يتوقف الزوجان عن تطليق كل منهما للآخر إلا عندما يتعبان ويبلغان من الكبر عتياً،شريطة توافر المال لكل منهما من أجل كل هذه البهلوانيات في زمن طويل كهذا. ويعتقد هؤلاء الناس أن الخطأ هو أنهم لم يعثروا على الشريك المناسب. ولكنهم لا يعتقدون أن الخطأ في أنفسهم: فالخطأ هو عدم استطاعتهم أن يعيشوا مع شخص آخر، أو عجزهم عن رؤية الشخص الآخر موضوعياً وأنهم لذلك وبالضرورة يختارون الشريك المغلوط فيه. ولنقل إن نرجسيتهم تجعلهم يختارون، فيقعون في حب امرأة تعجبهم للغاية، ولنقل، تميل إلى أن تكون مطواعة، ولنفترض أنه يغلب عليها في الوقت ذاته أنها في الأسفل مازوخية تماماً وعلى المدى الطويل ثقيلة على النفس. وهذا بالفعل مزيج رديء؛ فبالنسبة إليه، هو يقع في حبها لإعجابه بها، وبعد سنة يرى أن خضوعيتها تبدأ في إضجاره. وفي البدء كان سعيداً برضوخها لأن رضوخها كان بالنسبة إليه دعماً لنرجسيته. ولكنه ما كاد يعرف أنها معجبة به على هذا النحو حتى صار خضوعها شأن الخضوع دائماً مضجراً جداً، ولهذا فهو بحاجة إلى موضوع جديد يعجب به وتدور الدورة كلها. ولن يكون الحل إلا إذا أصبح مدركاً نرجسيته أو الأسباب التي تجعله يختار المرأة الخضوعية المعجَبة، وبذلك يمكن إيقاف الدورة.‏
وعندما يذهب رجل كهذا إلى التحليل ويتكلم عن مشكلة زواجه وكيف يمكنه حلها، فالجواب الوحيد سيكون: "ليست لديك مشكلة زواج، لديك مشكلة ذاتك. أنت المشكلة وسوف ترتكب الخطأ نفسه ما دمت لا تعرف لماذا ارتكبته. فإذا غيّرتَ هذا يمكن أن يحدث شيء غير ذلك." وحل المشكلات حيث لا حل لها هو عمل سيسيفوس(*) إنه يجعل المرء مثبّط الهمة ويستهلك الكثير من الطاقة لأنك تحاول وتحاول وتحاول والمشكلة بطبيعتها تجعلك لا تفلح. لأن مقاربتك كلها غير قابلة للتطبيق.‏
والمشكلة شديدة البساطة نظرياً، ولكن ليس من السهل أن يتابع المرء بمشاعره ما يعني المحاولة والمحاولة وعدم النجاح. إن ذلك كأنك تجمع مسائل رياضية أو مسائل علمية أخرى وتبدأ بمقدمة مغلوط فيها. فما دمت تبدأ بالمقدمة المغلوط فيها، فالمسألة غير قابلة للحل فتستعر وتكتئب. وما دمت لا تعرف أنك تحاول العثور على حل بطريقة لا يمكن أن يُعثر بها عليه، تصبح مقتنعاً باطّراد بعجزك وقصورك، وعدم جدوى عملك، وعبث مسعاك وتغدو مخذولاً أعمق الخذلان. ولكنك عندما ترى:"يا إلهي، ليست هذه هي المسألة، فمقدمتي مغلوط فيها؛ ههنا المسألة الحقيقية ولو أنها أكبر، ولكنني الآن أستطيع أن أعالجها.". إن هذا يأتيك بحياة جديدة، لأنك عندئذ تفكر:" قد لا أنجح ولكن ذلك على الأقل شيء أعمل على أساسه وليس ذلك من حيث المبدأ غير قابل للحل، وهو لا يحكم عليّ بالقصور بالأبدي. وبوسعي أن أحاول عمل شيء ما؛ إنني أعمل في أمر لـه معنى وليس في مشكلة وهمية." وأعتقد أن ذلك يسبّب الزيادة في الحرية، والطاقة، والثقة، المهمة جداً: لرؤية النزاعات الحقيقة بدلاً من النزاعات الوهمية.‏
(2) الأمر الثاني هو أن كل كبت يقتضي الطاقة للمحافظة على الكبت حياً. وذلك يعني ولنعبّر عنه بطريقة أبسط: إن المقاومة تتطلّب الكثير من الطاقة. والآن فإن هذه الطاقة مُقْصاة، تُبذل من دون فائدة كما ننفق جزءاً كبيراً من دخلنا القومي على التسلّح. فهذه الطاقة تذهب سدى. ومتى رفعتَ الكبت، ومتى كنت غير مضطر بعد ذلك إلى تغذية المقاومة، أصبحت هذه الطاقة ميسّرة لك والنتيجة هي ازدياد الطاقة من جديد وهذا يعني ازدياد الحرية.‏
(3) لعل الأمر الثالث الذي أود أن أذكره هو الأمر الأهم. فإذا أزلتُ العوائق الموجودة في ذاتي لأكون على اتصال بما يجري حقاً، فإن مجاهداتي الفطرية من أجل الصحة قد تبدأ بالعمل. وأقول هذا على أساس افتراضي وخبرتي، الشخصية ومع الآخرين، بمعنى واسع جداً، أنه يوجد في كل إنسان نزوع إلى حسن الحال لا بيولوجياً وفيزيولوجياً وحسب بل كذلك سيكولوجياً. وليس في ذلك شيء سري. وهذا، من وجهة النظر الداروينية، منطقي جداً لأن حسن الحال يخدم البقاء. وكلما كان الناس مسرورين أكثر، عاشوا زمناً أطول، وكلما كثر عدد الأطفال عندهم، كانوا منتجين أكثر. ولكن من وجهة نظر البقاء البيولوجي، فإن ما يهم هو حياتهم وأنهم يتزوجون وينجبون الأطفال.‏
وذلكم بالمعنى الضيق جداً، ولكنني لا أتحدث بهذا المعنى الضيق. وفي كتابي تشريح التدميرية البشرية The 1973a,pp.254-259)) Anatomy of Human Destructiveness أستشهد بعدد من علماء فيزيولوجيا الأعصاب الحديثين الذين زعموا لي بصورة شديدة الإقناع أنه حتى في بنية أدمغتنا نجد ميولاً طبيعية ليست غريزية بالضبط ولكنها مع ذلك فطرية ومتكونة مقدماً، لديها النزوع إلى حسن الحال، والتعاون، والنمو.‏
ولعله من الأيسر أن ندرك هذا الدور للميل الفطري إلى التغلّب، والنمو، والعيش إذا ذكّرتكم بأحوال الطوارئ. ففي أحوال الطوارئ، يُظهر الناس بغتة القدرات والبراعات التي لم يكونوا يظنون أنها لديهم- لا القدرات الجسدية وحسب بل الذهنية كذلك، حتى القدرات الإدراكية، من كل نوع. والسبب هو ـ وهنا تدخل البيولوجيا ـ أن الدافع إلى العيش مبنيّ بقوة في الدماغ البشري وحين يصبح واضحاً أن المسألة مسألة حياة أو لا حياة، يتحرك قدر من الطاقة لم يكن ظاهراً من قبل.‏
وبالنسبة إليّ كانت تجربة واحدة شديدة الحسم في تفكيري في ذلك. فقد عرفت امرأة في دافوس كانت تعاني من السل الرئوي. كان ذلك عندما لم يكن هذا الداء يعالَج بالعقاقير، وقبل ذلك بزمن طويل. وكانت مريضة جداً ويزداد مرضها كل يوم. وعند مرحلة معينة قام طبيبها بالتشاور مع المختّصين الآخرين، وفي النتيجة جاء إليها وقال لها: " اسمعيني الآن، منذ آونة أجرينا مشاوراتنا؛ ليس ثمت شيء آخر نستطيع أن نفعله لك من وجهة النظر الطبية. ومسألة هل ستعيشين أم ستموتين تعود عليك كلياًً." وكان الأطباء، كما يمكن أن يرى المرء من هذه الصياغة، مقتنعين أنها ستموت على الأرجح. حسناً، هذا ما حدث للمرض. لقد طرأ في غضون أسابيع قليلة تغيّر صحي بدا لهؤلاء الأطباء شبيهاً بالمعجزة، وهذه المرأة التي كانت مريضة إلى حد مريع، تعافت تماماً. ولو أن هذا الطبيب قد قال، كما من شأن جل الأطباء أن يقولوا بنيّة حسنة:"حسناً، لا تفقدي الأمل، كل شيء سيسير على ما يرام"، لكان قد قتل هذه المريضة، لأنه يكون قد منعها من القيام بالخطوة الحاسمة لحشد طاقتها.‏
ولتقديم مثال آخر، أستطيع أن أذكر"إلزا جندلر" Elsa Gindler في برلين، التي ابتكرت هذه الممارسات لتحسّس الجسد. كيف توصّلت إلى ذلك؟‏
كانت تعاني من السل وقد قال لها الأطباء:"إذا لم تذهبي إلى دافوس من أجل بقية العلاج فإنك ستموتين." ولكنها لم تكن تملك المال للذهاب إلى هنالك. ولذلك استنبطتْ حدسياً نظاماً لتحسّس جسدها، أي للحصول على الإحساس الأكبر بالنشاط الجسدي الداخلي، أي التوازن الجسدي. وتعافت تماماً وأنشأت هذا النظام الذي صار فيما بعد يدرّس في ألمانيا وسويسرا وأخيراً في أمريكا. وعندما رآها الطبيب في الشارع بعد سنة، نظر إليها وقال:"وهكذا ذهبت إلى دافوس"، وكان من الصعب أن يصدّق أنها لم تذهب.‏
والمجاهدة الفطرية من أجل الصحة ذات دلالة بالنسبة إلى التقنية التحليلية وإلى حياة المرء من دون تحليل كذلك. وكل نوع من التشجيع المغلوط فيه قاتل، مؤذٍ، إلا إذا كان المريض في حالة ميؤوس منها إلى حد أن المرء لا يستطيع أن يتوقع أن يكون للحقيقة الكاملة أي جدوى بعد ذلك. وإلا إذا "شجّعتُ" شخصاً وبالغت في تقليل شدة المشكلة، فإنني لا أقوم إلا بإيذاء الشخص، وذلك ببساطة لأنني أمنع طاقة الطوارئ من الظهور. وعلى العكس، فكلما وصفت للشخص الوضع الذي هو فيه، والخيارات، بوضوح وشدة أكثر، عبّأتُ طاقات الطوارئ عنده أكثر وقرّبته من إمكانية الشفاء أكثر.‏
(*) سيسيفوس Sisyphus: ملك كورينث(الأسطوري) الذي عوقب بقذفه إلى "حادس"Hades، مثوى الأموات عند اليونان القدامى لأن أعماله المنكرة كانت أنه كان يدحرج حجرة كبيرة إلى أ على تل من التلال فكانت تعود متدحرجة باستمرار.(المترجم)‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق