-->

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي - ـ الفصل الخامس

ـ الفصل الخامس الشروط المسبّقة للشفاء العلاجي
المقدرة على النماء النفسي‏
إذا فكرنا في عصاب الطبع واسع الانتشار اليوم، وَجَب علينا أن نطرح السؤال: لماذا ينشأ شخص على النحو الذي ندعوه كئيباً عصابياً؟ لماذا هو ليس كما يريد أن يكون، أي ليس لـه من السعادة في الحياة إلا النزر اليسير؟‏
أود أن أشير إلى اعتبار هو نتيجة ملاحظتي في الحياة، وهو أن ثمت قانوناً عاماً هو أن كل إنسان يريد أن يحيا ويريد أ ن يحظى من الحياة بأحسن ما يكون من اللذة والإشباع، ككل حيوان، وكل بزرة، ولا أحد يريد أن يشقى. ولا المازوخي كذلك؛ فالمازوخية عنده هي الطريقة الخاصة للحصول على الدرجة القصوى من اللذة. والسبب الذي يجعل الناس أكثر صحة أو أقل أو يعانون أكثر أو أقل يكمن في أنهم، بسبب ظروفهم، وأخطائهم، وسوء توجيههم لحياتهم (الذي يكون نظامياً في سن الثالثة فما بعد)، وكذلك في بعض الأحيان بسبب العوامل التكوينية والاتحاد الخاص للظروف، لا تكون لديهم الشروط المناسبة لتحقيق الحد الأعلى من النمو الذي يمكن أن يبلغه الشخص البشري. ولذلك ينشدون خلاصهم بطريقة كسيحة.‏
وأريد أن أقارن إمكانيات النمو النفسي الكسيحة بشجرة في الحديقة؛ إنها بين جدارين في إحدى الزوايا ويصل إليها القليل من الشمس. وقد نمت هذه الشجرة معوجّة تماماً، ولكنها نمت على ذلك النحو لأنه سبيلها الوحيد إلى الوصول إلى الشمس. وإذا أردت أن تتكلم عن هذه الشجرة كما تتكلم عن إنسان قلت إنها إنسان كسيح قبيح لأنه معوجّ تماماً. إنه ليس كما يجب أن يكون، وفقاً لاستعداداته الكامنة. ولكن لماذا هو على ذلك النحو؟ لأن هذه كانت طريقته الوحيدة للحصول على الضوء. وهذا ما أعنيه هنا، يسعى كل امرئ إلى الوصول إلى الشمس والحصول على النماء في الحياة. ولكن إذا كانت ظروفه هكذا بحيث لا يستطيع الحصول على ذلك بطريقة أكثر إيجابية، فإنه سيحصل عليه بطريقة معوجّة. وأقصد بـ "معوجّة" هنا معناها الرمزي، أي بطريقة مريضة، بطريقة منحرفة. ومع ذلك يظل إنساناً، يبذل أقصى مستطاعه للعثور على حل لحياته. وعلى المرء ألا ينسى ذلك.‏
وإنها لمهمة عسيرة للغاية أن يغيّر المرء نفسه وأن يحقق – كما يمكن أن تقولوا- تحويل الطبع. وفي الحقيقة كانت تلك غاية الأديان كلها، وجل الفلسفات. ومن المؤكد أنها كانت غاية الفلسفة اليونانية وهدف بعض فلسفات الحداثة، وسواء في ذلك أتحدثت عن البوذية أم تحدثت عن المسيحية واليهودية والإسلام أم سبينوزا أم أرسطو. فقد كانت كل هذه الرسالات تسعى إلى اكتشاف ماذا بوسع الإنسان أن يفعل ليمنح نفسه التوصيات، ويهدي نفسه إلى أفضل هَدْي وأسماه وأكثره صحة وفرحاً، إلى أقوى هدي في العيش. ويعمل أكثر الناس بدافع من الواجب، لأنهم يعتقدون أنهم مدينون له: وذلك يعني أنهم متّكلون. إنهم لم يصلوا بعدُ إلى مرحلة إثبات الذات، مرحلة طرح أنفسهم "هذا أنا، وهذه حياتي، وهذا اقتناعي، وهذا شعوري، وأنا لا أعمل وفقاً لنزواتي‏
– فمن شأن ذلك أن يكون غير عقلي- بل وفقاً لما يمكن أن يدعوه المرء التجلي العقلي لذاتي، أو كما يمكن أن يقال، وفقاً للمتطلّبات الماهوية أو القدرات الماهوية في شخصيتي. وضد الدوافع التي هي غير عقلية كذلك". والمقصود بـ "الماهوية" هنا التي تنتمي إلى ماهية ذاتي بوصفي إنساناً.‏
ماذا يعني أن أكون عقلياً؟ قال هوايتهد Whitehead (1967, p. 4): "إن وظيفة العقل هي ترقية فن الحياة". ولو أردت أن أعبّر عن ذلك بكلماتي لقلت: إن العقلي هو كل ذلك، كل الأعمال والسلوك، التي ترفد نمو البنية ونشأتها، وغير العقلي هو كل تلك الأعمال السلوكية التي تعوّق نمو الكيان وبنيته وتقضي عليه، سواء أكان الكيان نباتاً أم كان إنساناً. وقد تطورت هذه الأمور، وفقاً للنظرية الداروينية، لتكون الجانب الآمن من مصالح الفرد والنوع في البقاء على قيد الحياة. ومن ثم فهي ترفد أساساً مصالح الفرد والنوع ولذلك هي عقلية. فالرغبة الجنسية عقلية. والجوع والظمأ عقليان تماماً.‏
بلية الإنسان أنه قليل التحدّد بالغرائز. ولولا ذلك ولو كان الإنسان حيواناً لكان عاقلاً تماماً – وكل حيوان عاقل تماماً- إذا تخلّصتم من عادتكم في التفكير وهي الخلط بين العاقل والمفكر. والعقلي لا يعني بالضرورة الشيء الذي هو فكر؛ بل يشير العقلي في الحقيقة كثيراً إلى العمل فقط. وعلى سبيل المثال: إذا وضع أحدهم مصنعاً في مكان فيه العمل عزيز المنال وغالي الثمن ويحتاج إلى العمال أكثر من الآلات، فإنه يتصرف من الوجهة الاقتصادية بطريقة غير عقلية لأن عمله محتوم لـه أن يُضعف نظامه الاقتصادي، نظام معمله، ويقضي عليه، وسيلاحظ ذلك وشيكاً عندما يُفلس بعد سنة أو سنتين.‏
ومنذ فريدريك وينسلو تيلور Frederick Winslow Taylor، يتكلم الاقتصاديون عن "العقلنة" بمعنى مختلف تماماً عن معنى العقلنة السيكولوجية عندنا. فالعقلنة تعني تغيير أنهاج العمل بطريقة تكون أوفى من وجهة نظر الأداء الأفضل لهذه الوحدة الاقتصادية – لا من وجهة نظر الإنسان.‏
ووفقاً للإنسان على المرء أن يقول: إن غرائزه ليست غير عقلية، وإنما أهواؤه هي كذلك. فليس عند الحيوان حسد، ولا تدميرية من أجل ذاتها، ولا رغبة في الاستغلال، ولا سادية، ولا رغبة في الهيمنة، فكل ذلك أهواء تكاد عموماً لا توجد عند الحيوانات على الإطلاق. وهي تظهر في الإنسان لا لأن لها جذورها في غرائزه، بل لأنه تُنتجها شروط مَرَضية معينة في بيئته التي تُنتج الخصائص المرضية في الإنسان. ولنقدم مثالاً بسيطاً: إذا كانت لديك بزرة شجيرة ورد، عرفت أن هذه البزرة لكي تُنتج شجيرة كاملة النماء جميلة الورد تحتاج على وجه الدقة إلى ذلك القدر من الرطوبة، والحرارة، وإلى نوع خاص من التربة، وإلى أن تُزرَع في أوان معين. فإذا توافرت هذه الشروط، فإن هذه البزرة – إذا لم تتعرض إلى الآفة أو الظروف البارزة الخاصة الأخرى- سوف تنمو إلى وردة تامة، وإذا وضعت البزرة في تراب رطب للغاية، تعفّنت البزرة تماماً وتلفت. وإذا وضعتها في شروط ليست أفضل الشروط، فإنك ستحصل على شجيرة ورد، ولكن شجيرة الورد سوف تُسفر عن عيوب في نمائها، وفي أزهارها، وفي أوراقها وكل شيء. لأن بزرة شجيرة الورد لم تكن مستعدة أن تنمو تمام النمو إلا إذا كانت الشروط المتوافرة تؤدي تجريبياً – وذلكم أمر لا يُكتشف إلا تجريبياً- إلى نماء هذه البزرة الخاصة.‏
ويصدق ذلك على الحيوان أيضاً، كما يعلم أي حيوان ولود، ويصدق على الإنسان أيضاً. ونحن نعلم أن كل إنسان يحتاج من أجل نموه الكامل إلى شروط معينة. وإذا لم تتوافر هذه الشروط، إذا كان ثمت برد بدلاً من الدفء، وإذا كان ثمت إرغام بدلاً من الحرية، وكانت السادية بديلاً من الاحترام، فإن الطفل لن يموت بل سيصبح طفلاً معوّجاً، كما رأينا شجرة معوجَّة عندما لم تحصل على أي قدر تحتاج إليه من الشمس. وهذه الأهواء، التي هي أهواء معوجَّة، والتي هي نتيجة الشروط غير الكافية – إنما هي أهواء الإنسان غير العقلية. ويمكن أن يقال فيها إنها لا ترفد النظام الداخلي للإنسان، بل تجنح إلى إضعافه، أو تقضي عليه في مآل الأمر، وأحياناً حتى بالمرض.‏
وقد جاء فرويد بالاختراق الختامي للسيرورة التي دامت قروناً: إنه خلع القناع عن الفكر بمعرفة أن الصدق لا يُعرَّف بإثبات أن لدى المرء نيات حسنة –لأن أحداً من الناس يمكن أن يكذب بأحسن النيَّات أو مع الشعور بأنه مخلص تماماً، لأن أكاذيبه ليست شعورية، وإلى جانب ذلك، قدّم فرويد بُعداً جديداً كل الجدة لمشكلة الصدق، أو الإخلاص، في العلاقات الإنسانية، لأن العذر "أنا لم أقصد ذلك" الذي هو العذر التقليدي لعدم النية فيما يبدو أن العمل يدل عليه- قد فقد حقاً أهميته منذ نظرية فرويد في زلقات اللسان والحوادث الأخرى.‏
ومنذ فرويد كان لا بد من إعادة النظر في المشكلة الأخلاقية كذلك: فالشخص ليس مسؤولاً عما يفكر فيه وحسب بل كذلك عن لا شعوره. وهذا يكون حيث تبدأ المسؤولية، والبقية قناع، البقية لا شيء؛ ويكاد ما يعتقد به المرء لا يستحق الإصغاء إليه. وأنا أقول ذلك بشيء من المبالغة: إنك لتجد أقوالاً كثيرة وتأكيدات كثيرة وألفاظاً كثيرة لا تكاد تستحق الإنصات إليها لأنك تعرف أنها كلها جزء من الأنموذج، من الصورة التي يود أحدهم تقديمها.‏
وفي رأيي أن الأمر المهم بالنسبة إلى العلاج هو أن المريض يستطيع تنقيل شعوره أو شعورها بالمسؤولية والفاعلية. وأعتقد أن قدراً كبيراً مما يجري في التحليل يقوم على افتراض يفترضه الكثير من المرضى: هو أن هذا نهج يسعد به المرء بالكلام من دون القيام بالمجازفات، ومن دون معاناة، ومن دون أن يكون فاعلاً، ومن دون اتخاذ قرارات. إن هذا لا يحدث في الحياة ولا يحدث في التحليل. فلا أحد يصبح سعيداً بالكلام، ولا حتى بالكلام من أجل الحصول على تفسيرات.‏
ولا مناص للمريض لكي يتغير من أن تكون لـه إرادة هائلة ودافع قوي إلى التغيّر. وكل شخص يلوم شخصاً ما فيتملّص بذلك من المسؤولية. وإذا قلت المسؤولية، فأنا لا أتحدث من وجهة نظر قاض. فأنا لا أتّهم أي أحد. ولا أعتقد أننا نملك الحق في اتّهام أي أحد كأننا قضاة. ولكن يظل ذلك حقيقة واقعة: فلا أحد يتعافى ما لم يكن لديه شعور متزايد بالمسؤولية، وبالمشاركة، وفي الحقيقة بالفخر بإنجاز معافاته.‏
وهناك شروط معيّنة تؤدي إلى النمو الصحي للإنسان وشروط معينة تؤدي إلى الظواهر المرَضية، والمسألة الحاسمة هي اكتشاف ما هي الشروط المفضية إلى النماء الصحي للإنسان وما هي الشروط المولّدة للمرض.‏
وفي الحقيقة فإن نماء الإنسان موضوع كان يعالَج تحت صنف فلسفة الأخلاق في تاريخ الفكر. لأن فلسفة الأخلاق هي في ماهيتها المحاولة لإظهار تلك المعايير المفضية إلى النمو الصحي للإنسان.‏
وما يكاد المرء يتكلم عن الناس حتى يقول الناس إن ذلك حكم قيمي لأنهم لا يريدون أن يفكروا في المعايير الضرورية: إنهم يريدون أن يعيشوا بسعادة من دون أن يعرفوا كيف السبيل إلى أن يعيشوا بسعادة. وكما قال مايستر إكارت Meister Eckhart في إحدى المرات: "كيف بوسع الإنسان أن يتعلّم فن العيش وفن الموت من دون أي تعليم؟" وذلكم صحيح تماماً وهو أمر فاصل تماماً. ويعتقد الناس اليوم أنهم يستطيعون أن يصبحوا في غاية السعادة. ولديهم كل أحلام السعادة، ولكن ليس لديهم أدنى فكرة عن مسألة الشروط المفضية إلى السعادة، ولا إلى أي نوع من الحياة المرْ ضية.‏
ولدي اقتناع ومثال متميز حول مسألة كيف من شأن الثقافة أن تكون ذلك المفضي إلى حسن الحال. وليس أنني أستطيع أن أقدم مخططاً دقيقاً لمسألة كيف ينظر ذلك المجتمع نظرة تخصّصية، لأن ذلك بالغ الصعوبة، ومن المحال تنفيذه عملياً، لأنه في الظروف الجديدة تنشأ أشياء جديدة بالتفصيل كل يوم. ولكن بالرغم من ذلك فالمثال الأخلاقي الذي لديّ اقتناع متميز به هو: في ثقافة كهذه يكون المقصِد الأساسي للحياة هو النمو الكامل للإنسان لا للأشياء ولا للإنتاج ولا للغنى ولا للثراء. النمو الذي تكون فيه سيرورة العيش نفسها، إن أردتم، عملاً فنياً، بوصفه رائعة حياة أي شخص، تتمسّك بالقوة الفُضلى والنماء الأفضل، وهي الشيء الأهم في حياته.‏
والسؤال الحاسم هو: ما المهم؟ إن الجواب في ثقافتنا اليوم مختلف بالمقارنة مع العصور الوسطى. ويظل مختلفاً بعض الشيء عن الجواب، ولنقل، في القرن الثامن عشر، على الأقل بين الناس أنفسهم. فقد كانت ثمت فكرة هي أن الحياة هي حقاً مقصِد العيش، فالقصد من أن نولد هو أن نصنع من حياتنا شيئاً ما. أما اليوم فلم يعد ذلك مهماً. وما يعدّه الناس مهماً هو تحقيق النجاح، واكتساب السلطة، واكتساب الجاه، والصعود على السلّم الاجتماعي، وخدمة الآلة. ولكنهم يصبحون متبلّدين بوصفهم أناساً؛ وفي الحقيقة فإن جل الناس تسوء حالهم قليلاً. وعلى الرغم من أن الناس يتحسّنون في فن جني المال وفن الاحتيال فإنهم لا يتحسّنون بوصفهم بشراً.‏
إن الناس لا يتعلمون شيئاً ولا يغدون ناجحين في شيء إلا إذا اعتقدوا أن هذا أهم شيء يقومون به. والناس الذين يريدون أن يتعلموا – كما يشعر معظم الناس- لأنه "سيكون لطيفاً لو..." لن يتعلموا أي شيء صعب. ولو أردت أن تصبح عازف بيانو حاذقاً لوجب عليك أن تمارس بضع ساعات يومياً، ولو أردت أن تصبح راقصاً جيداً لوجب عليك الأمر نفسه، ولو أردت أن تصير نجاراً ماهراً لوجب عليك القيام بالأمر ذاته. وأنت تقوم به لأن هذا هو الشيء الذي تختار أن يكون أهم شيء. وعندما كان العبريون يعبرون البحر الأحمر قال الله لموسى أن يرفع عصاه فتنشق المياه. وحين رفع موسى عصاه لم تنشق المياه. ولم تنشق المياه إلا عندما وثب إليها أول عبري، ففي تلك اللحظة عينها انشقّت المياه. والمسألة هي أنه لا شيء يعمل ما لم يثب أحدهم في الوقت نفسه، ويكون راغباً في الوثوب. وبرؤية منعزلة لا يفهم المرء شيئاً على الإطلاق من أي شيء في هذا المجال. ولأن كل شيء انتفاخ، لا يتنظّم في بنية، ولا يكون لـه معنى يُفهم، ولا يكون لـه وزنه الحقيقي. ويتذكر المرء ذلك بعدئذ بوصفه "حسناً، كان شيئاً لطيفاً أنني تعلّمت قليلاً من هذا وقليلاً من ذلك"، ولكن أي شيء ليس لـه في الحقيقة تأثير في حياة المرء هو في رأيي معرفة غير مفيدة على الإطلاق حقاً. وخير للمرء كثيراً أن يذهب إلى صيد السمك، أو السفر البحري، أو الرقص، أو أي شيء آخر من أن يتعلّم الأشياء التي ليس لها تأثير في حياته، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.‏
وما أقوله هو: إذا كنتَ شجرة تفاح، تصبح شجرة تفاح جيدة؛ وإذا كنت توتة أرض، تصبح توتة أرض جيدة. وأنا لا أقول هل عليك أن تكون توتة أرض أم شجرة تفاح، لأن تنوّع الإنسان كبير بصورة هائلة. ولكل شخص كيانه من وجهات كثيرة ويمكن حتى أن تقولوا إنه كيان أشد خصوصية، وليس هناك أناس متكررون. فهو بهذا المعنى فريد، وليس هناك شخص آخر مثله بالضبط. وليست المشكلة هي خلق معيار للناس ليكونوا متماثلين بل خلق معيار ينصّ على أن الازدهار الكامل، والولادة الكاملة، والحيوية الكاملة يجب أن تكون في كل شخص من غير النظر إلى مسألة أية "زهرة" خاصة هو.‏
وقد يبدو أن هذا يفضي إلى وجهة نظر عدمية، أي أنك قد تقول: "حسناً، وهكذا فإذا وُلدتَ مجرماً فأنت مجرم". وبصريح العبارة إنه لخير أن يكون المرء مجرماً من ألا يكون شيئاً. ولكن ألاّ يكون شيئاً، وألاّ يكون مجرماً ولا غير مجرم، وأن يعيش من دون مقصد أو وعي – فذلك هو الأسوأ. وأنا أعتقد أن صيرورة المرء مجرماً، وحتى مجرماً جيداً تظل ظاهرة مَرَضية. لأن الإنسان لا يولد لكي يكون مجرماً، ولأن الإجرام في ذاته ظاهرة مَرَضية.‏
وتكمن بداية النماء في صيرورة المرء حراً. وتبدأ سيرورة حرية المرء بنفسه وبأبويه. وليس ثمت شك في ذلك. وإذا لم يحرر الشخص نفسه من أبويه وإذا لم يشعر أو لم تشعر أكثر فأكثر بامتلاك الحق في التقرير لنفسه أو لنفسها وأنه أو أنها ليس خائفاً أو ليست خائفة ولا متحدياً أو متحدية بصورة خاصة لرغبات الأبوين، بل كان وحيداً أو كانت وحيدة، فإن باب الاستقلال أو طريقه يظل مغلقاً على الدوام.‏
وأود أن أقول إن أفضل شيء بوسع أي شخص القيام به هو أن يسأل نفسه أو تسأل نفسها: "أين أنا في الدرب الشخصي إلى الاستقلال بالإشارة إلى رد فعلي على أبويّ؟" إنني لا أقول إن على المرء ألا يحب أبويه. وهناك نوع من الحب الذي يمكن أن يكنّه المرء حتى للناس الذين أضروا المرء، شريطة أن يكونوا قد أضروا من دون أن يعلموا أنهم كانوا مضرين. وبعض الناس لا يستطيع المرء أن يلومهم فعلاً؛ وبعضهم يكونون محبَّبين إلى القلب تماماً على الرغم من أنهم قد ارتكبوا أخطاء كثيرة أو قاموا بالأعمال المغلوط فيها. وهكذا لا يشير ذلك إلى المعاداة؛ وتلك الحروب المختلفة ضد الآباء غالباً ما تكون مجرد ستار من الدخان للاتكال الذي لا يزال موجوداً: على المرء أن يثبت للوالدين أنهما على خطأ. وما دام على الأبناء أن يثبتوا للآباء أنهم على خطأ، فلا يزال عليّ أن أثبت ذلك لوالديّ. والمسألة هي أن المرء يكون حراً إذا لم يكن عليه أن يثبت أن والديه على خطأ ولا أنهما على صواب. وعلى ذلك فهذا هو أنا، وأنتما هما أنتما، وإذا أحبّ بعضنا بعضاً فذلك رائع، وتلك هي بداية أي درب إلى حرية المرء من أجل ذاته- ولا ريب أنه درب لا يُعرف كذلك إلا إذا سعى المرء.‏
مقدرة المرء على خبرة الواقع بنفسه‏
للإنسان مَلَكتان للحكم في الواقع.(1) فله ملكة للحكم في الواقع كما يجب أن يُحكم فيه لكي يسوسه. وذلك يعني أن حاجتي إلى البقاء حياً تجعل من الضروري أن أحكم في الواقع لكي أسوسه. وإذا كان في يديّ حطب، فعليّ أن أراه حطباً لـه الصفات الخاصة المميّزة للحطب إذا كنت أريد أن أضرم ناراً. وإذا رأيت أحد الأشخاص يهاجمني بسلاح، وكانت لمن أراه نيّات عدوانية، فاعتقدت أنه رسول سلام وبيده حمامة، فإنني سأموت. أي أن فهم الواقع ومعرفته بوصفهما ضروريان للتمكّن منه إنما هو وظيفة في الإنسان مشروطة بيولوجياً. ولجلّ الناس تلك الوظيفة، وذلكم هو السبب في أنهم يؤكدون وظيفتهم الاجتماعية.‏
(2) ولكن للإنسان مَلَكة أخرى. فله وظيفة خبرة الواقع لا على أساس ماذا بوسعه أن يعمل به، بل بوصفها خبرة ذاتية خالصة. ولنقل، إنه ينظر إلى شجرة. والآن فإن من يملك الشجرة قد ينظر إليها من وجهة نظر: "ماذا تستحق؟ هل يجب أن أقطعها؟" فينظر إلى الشجرة أساساً من حيث قيمتها الشرائية. ولكنني إذا نظرت إلى العالم بوجهة نظر ذاتية، أي بوصفه شيئاً أراه لأن لديّ عينين تريانه، وتشعران به، وتتحسّسانه، كان لديَّ إحساس بالجمال، ثم أََخبُر هذه الشجرة بوصفها شيئاً – رائعاً- كما أََخبُر شخصاً آخر أو أنظر إلى شخص أو أكلّم شخصاً. فإذا كنت أسوس هذا الشخص، فإن سؤالي هو: "ماذا بوسعي أن أ فعل بهذا الشخص؟ ما هي نقاط ضعفه؟ ونقاط قوته؟" وهلم جرا. وعندئذ فإن صورة المرء الكلية عن هذا الشخص يحددها قصد فعل شيء ما به. ولكنني إذا كلمت الشخص، وأحببت الشخص، ولم أحبب الشخص، وكنت غير مكترث، ونظرت إليه أو إليها، فلن تكون لديّ مثل هذه المقاصد. وعندئذ إما أن تكون لديّ متعة كبيرة، بما يبعث على الأمل، وإما أن يكون لديّ إحساس بالنفور، وإما أن يكون لديّ إحساس من الأحاسيس الأخرى. وقد أرى هذا الشخص – إذا كانت لديّ القدرة على رؤية جذوره العميقة، وقد أرى هذا الشخص في ماهيته الكلية، كما هو.‏
إن هذه الملكة الذاتية، هذه القدرة على رؤية الأشياء ذاتياً هي الملكة الثانية التي تجدونها معبَّراً عنها في الشعور مثلاً. فإذا كتب شاعر "تشتعل الوردة مثل اللهب"، فإنه معتوه من وجهة نظر التفكير التقليدي اليومي.‏
خذوا وردة وحاولوا إضرام النار لسلق البيض. ومن الواضح أنه لا يشير إلى ذلك؛ إنه يشير إلى الانطباع الذي تكوّن لديه من هذه الوردة. إنه يتحسّس، يرى، يَخبُر خاصيّة الاشتعال الناري في هذه الوردة. ويَخبُر أحدهم ذلك لأنه شاعر؛ ونحن لا ندعوه معتوهاً، بل ندعوه شاعراً لأن لديه في الوقت نفسه مَلَكة رؤية الوردة ذاتياً على هذا النحو، وكذلك مَلَكة رؤيتها موضوعياً. وهو على بيّنة من أنه لا يمكن بهذه الوردة المشتعلة إضرام النار.‏
ولقد فقد معظم الناس اليوم تلك المقدرة، فهم لا يستطيعون أن يروا الأشياء إلا كما يمكن أن يقول المرء واقعياً، بالمعنى الأول، أي أنهم يعرفون العالم بصورة جيدة جداً كما يمكن الاحتيال عليه. ولكنهم غير قادرين على رؤية شيء ما سواء أكان الشيء في الطبيعة أم الشخص، ذاتياً، من دون قصد غير خبرة هذا المنظر، هذا الصوت، هذه الصورة. ويمكن إذن للمرء أن يقول، إن الشخص يكون مريضاً عندما لا تكون لديه مَلَكة الرؤية الذاتية كما يكون عندما يخفق في رؤية العالم الخارجي. ولكننا لا ندعو أحداً من الناس ذُهانياً ومريضاً إلا عندما لا تكون لديه المقدرة على الحكم في الواقع الخارجي.‏
إذا لم تكن للشخص القدرة على رؤية أي شيء ذاتياً فنحن لا ندعوه مريضاً، أو نقول إنه مريض كما من شأن الطراز الأول أن يكون. والسبب بسيط: نحن لا ندعو مريضاً إلا من يتعارض مع الأداء الاجتماعي. ومفهوم المرض اجتماعي ماهوياً. فإذا كان أحدهم أبله، أبله انفعالياً، أبله فنياً، لا يفهم شيئاً، وغير قادر على رؤية أي شيء إلا القيمة العملية للسنتات، فإننا ندعوه اليوم شديد الفطنة. وهؤلاء هم الرجال الأكثر نجاحاً، لأنهم لا ينذهلون كما ينذهل شارلي شابلن بالفتاة الظريفة في الفيلم حين تأتي وهو يعمل على الآلات، فيفقد سيطرته على الآلة، على نطاق لا حدّ له. وإذا لم تشعر بشيء، وإذا لم تكن لديك خبرة ذاتية، فأنت تليق على أحسن ما يكون بالمجتمع الذي كل ما يهم فيه هو الإنجاز، الإنجاز العملي. ولكنك لذلك السبب لن تكون في صحة على أحسن ما يكون.‏
والسؤال المفتوح هو من هو الأكثر مرضاً، الشخص الذي يُسمى الذُّهاني أم الشخص الذي يُسمى الواقعي. وأعتقد أنه يمكن للمرء أن يقول إن الكثيرين من الفُصاميين كانوا أسعد في كونهم فُصاميين من أن يعملوا في مؤسسة تحاول بيع سلعة عديمة الجدوى، أو أن يطوفوا حول الناس في محاولة لبيعها.‏
ولتقديم مثال جيد أقول، إنني أعرف رجلاً كان إنساناً كثير النجاح ولكنه كان واقعاً تحت سيطرة زوجته التامة، وهي إحدى هؤلاء – وكلكم تعرفون النمط: النمط الأنغلو سكسوني المعهود، امرأة صغيرة جداً، شديدة الاحتشام، نحيفة جداً، تكاد لا تستطيع أن تتفوه بكلمة واحدة بصوت مرتفع، غامضة الحضرة جداً جداً. كانت تحكم الأسرة مثل دكتاتور، ولكن يسترها هذا النوع البريء، غير الضار، الحلو أحياناً، وغير الحلو كثيراً أحياناً أخرى، إلا أنه بالفعل هذا النوع من السلوك المفرط في الاحتشام والمفرط في الانزواء. وظهر على الرجل في فترة لاحقة من حياته اكتئاب أجبره على دخول المشفى. ومنع الأطباء، بذكاء شديد، زوجته من زيارته، ولكنهم سمحوا لابنه بزيارته. وأخبر ابنه: "إنني سعيد في أول مرة في حياتي.." ويبدو ذلك الأمر منطوياً على المفارقة بعض الشيء بالنسبة إلى إنسان مكتئب في المشفى ومع ذلك فهو صحيح تماماً. ففي أول مرة في حياته شعر شعور إنسان حر- الاكتئاب أو اللا اكتئاب. وكان ذلك الظرف أفضل الظروف التي يمكن أن تتحقق لـه لكي يكون حراً. وحين أراد أن يكون معافى ويعود إلى البيت قال في نفسه – بغتة- إنه سيكون أسيراً من جديد ولم يعد يتحمل ذلك.‏
التأثير المقولب للمجتمع والثقافة‏
كان مفهوم فرويد هو أن أصل هذا النوع من التوجّه أو نشأته- سواء أكان تقبلياًَ- شفهياً، أم سادياً- شفهياً، أم شرجياً- يكمن في أن اللبيدو قد تثبّت على إحدى المناطق المثيرة للشهوة الجنسية. وبكلمات أخرى فههنا اللبيدو قد ركزّه على منطقة مثيرة للشهوة الجنسية مصير خاص من اللبيدو عنده في سياق نشأته، فتكون الخصيصة النفسية للطبع إما الخضوع وإما التشكّل الارتدادي ضد هذه الرغبة اللبيدية [...]‏
وأنا أعتقد أن ذلك هو بالفعل مرحلة ثانوية، وأنه ليس التثبّت على بعض المناطق المثيرة للشهوة مرحلة أولية. بل إنه فعلاً في عملية استيعاب العالم ليس لدى الإنسان إلا بضع إمكانيات: إما أن أستطيع الحصول على الأشياء بتلقّفها سلبياً، وإما أن أستطيع الحصول على الأشياء بأخذها بالقوة، وإما أن أستطيع الحصول على الأشياء بادّخارها. وأعتقد أن ثمة إمكانية أخرى ذكرتها في كتابي الإنسان من أجل ذاته. [1947a] Man for Himself: وهي أنني أستطيع الحصول على الأشياء بالمبادلة- وأستطيع الحصول على الأشياء بإنتاجها. ولا توجد إمكانيات أخرى. أما مسألة أي شكل من هذه الأشكال أو أي نمط من أنماط الاتصال هذه سوف تكون في الشخص في المقام الأول فتعتمد أولاَ على طبيعة المجتمع، والثقافة، وتعتمد ثانياً على طبع الأبوين- إذا لم نتحدث عن بنية الطفل. ولا تكون إلا ثانوية مهما ظهر أنها صحيحة فيما يتعلق بالمناطق المثيرة للشهوة، ولكنها نتيجة حقاً وليست بالأحرى سبباً.‏
وأصل إلى مفهومي للطبع وهو كما هو الأمر بالنسبة إلى كل البنى الأخرى، ليس من نشأة اللبيدو بل من طبع الأبوين وما دعوتُه الطبع الاجتماعي. وأعني بالطبع الاجتماعي ذلك النمط من الطبع الذي ينتجه كل مجتمع، لأنه يحتاج إلى الناس ويجعل الناس يريدون ما عليهم أن يفعلوه. والمثال البسيط على ذلك هو : في القرن التاسع عشر كنتم تحتاجون إلى الناس الذي يريدون أن يوفروا، لأنه مع الحاجة إلى التراكم الرأسمالي في ذلك العصر كنتم تحتاجون إلى الناس الذي يوفرّون، الذين يريدون أن يوفرّوا. وهكذا فإن ذلك الطراز من الطبع الاجتماعي الذي من شأننا أن ندعوه الطبع الادخاري ـ الشرجي كانت تنتجه التربية، ومنها مثلاً التربية التي يقدّمها الآباء، والتنشئة الكلية للأطفال. وأنتم اليوم بحاجة إلى الناس الذي ينفقون. ولذلك تنتجون التوجّه التلقّفي والتسويقي، فأنتم بحاجة إلى الناس الذي يريدون بيع أنفسهم، وعرضها في السوق. وإذا تناولنا تعبيراً بسيطاً عن عصرنا، فإنه إذا قال أحدهم، «لا أعتقد بما تقوله»، فإن الكثيرين من الناس يعبّرون عن الفكرة نفسها بقولهم «لا أشتريه» I don’t buy it. وذلك يعني أنهم مدركون تماماً، ولو لم يكن بصورة شعورية، أن كل شيء ـ حتى تبادل الأفكار ـ هو مادة في السوق : فأنت تشتري أو لا تشتري.‏
وتوجّهات الطبع التي وضعها فرويد والتي وصفتُها أنا متماثلة على مستوى مجموعات الأمارات والعلامات. وهي ليست متماثلة على مستوى تفسيراتها الوراثية. ولم وضح في كتاباتي توضيحاً كافياً أين أرى التماثل وأين لا أراه. ولعلي في الحقيقة لم أستطع أن أوضح ذلك آنذاك لأنه لم يتضح لي حقاً إلا في السنوات القليلة الماضية.‏
وعندما يقول أحدهم إن أفكاري تؤكد الثقافة، اشعر أن ذلك لا ينصف فرويد، لأن فرويد يؤكد الثقافة أيضاً. ولكن هناك اختلاف كبير. فقد كانت الثقافة عند فرويد شيئاًَ كمياً، حضارة تقريباً، أي ضغط كبت الغريزة أو شدته إلى هذا الحد أو ذلك. أما أنا فلا أنظر إلى الثقافة على أنها شيء كمي من الكبت إلى هذا الحد أو ذلك، بل على أنها شيء كيفي، أي بوصفها بنية مختلفة لمجتمع معين تشكّل الإنسان، تقولب الإنسان، تؤسس ممارسة الإنسان. وبكلمات أخرى، أنا أفترض أننا ما ينبغي لنا أن نكون وفقاً لضرورات المجتمع الذي نعيش فيه ولذلك فهي مهمة للغاية عندي لتحليل البنية الخاصة لأي مجتمع مذكور، سواء أكان الإقطاعية أم رأسمالية القرن التاسع عشر أم رأسمالية القرن العشرين أم مجتمع الاستعباد اليوناني. وهذه الثقافة بالنسبة إليّ هي التي تكون في الطبع، الذي تشكّل فيها ـ أي هي المبدأ النشوئي الأساسي الذي تتشكّل وفقاً لـه أنماط الطباع هذه ـ وليس اللبيدو، أي النشوء المعتمد على أحداث معيّنة أو وقائع محدّدة في علاقتها بالمناطق المثيرة للرغبة الجنسية.‏
إنني أؤكد تحليل البنية الخاصة لأي مجتمع مذكور، وهذا ما لم يفعله فرويد. وليس هذا نقداً، لأنه لم يكن متدرّباً على ذلك، ولكن هذا هو ما لم تفعله هورني Horney وما لم يفعله سوليفان كذلك من حيث الأساس، لأنهما لم يكونا يهتمان بتحليل المجتمع. كانا مهتمين بالتأثير الثقافي ببساطة ـ حسناً، ليس ذلك مناسباً. وتذكر هورني بعض الأمور النموذجية في المجتمع الحديث، ولكن ما يظل ضرورياً، من وجهة نظري، هو الجمع بين التحليل النفسي و التحليل العلمي الدقيق للبينة الاجتماعية.‏
[إن اعتماد المجاهدات على الظروف الاجتماعية والثقافية يمكن أن يُوضحه السلوك الجنسي.] والإنسان الحديث يستهلك كل شيء على الفور وهو كذلك يستهلك الجنس. وذلك جزء من الاتجاه العام. ليس لكم شيء سواه على هذا النحوـ والمجتمع لا يعرّضه ذلك للخطر البتة. بل على العكس، فكل الأفكار النقدية، وكل الاحتجاجات على هذه الطرق غير الإنسانية نسبياً في العيش يُضعفها هذا التنفيس الضخم عن الجنس.‏
إنني لا أتحدث عن العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج الشرعي، بل أتحدث عن العلاقات الجنسية التي هي نوع من"الجنس الفوري"، التي لا تصاحبها أية مشاعر عميقة أو أي عمق كبير في العلاقة، أو أي نوع من الحميمية الإنسانية. ولا أقول كذلك بأي أذى في الجنس، لأن الجنس تعبير عن الحياة لا عن الموت. وهكذا فأنا لا أقول بوجود ضرر في الجنس لأنه جنس ـ وهو في الحقيقة أفضل بكثير من الإنكار المكبوت وغير الصادق للجنس كما كانت الحال في القرن التاسع عشر. ولكنني مع ذلك أتحدث عما ينشأ عن أوسع وجهة نظر إلى حد ما، أي عن النمط غير الجِدّي، العَرَضي الصرف، غير الحميمي من الجنس الذي هو النموذجي اليوم وقد كان امتياز الطبقات العليا في القرن التاسع عشر.‏
ويعتقد الكثير من الناس أن هذا النوع من الحياة الجنسية الذي ابتدعه الجيل الجديد ظاهرة جدّ جديدة. وقد صرفوا النظر كلياً عن الطبقة العليا في إنجلترا التي عاشت، مثلاً، هذا النوع من الحياة زمناً طويلاً. وإذا قرأت أوصاف حفلة الطبقة العليا في إنجلترا، رأيت أن المشكلة الكبرى عند المضيفة كانت ـ و كان هؤلاء الناس يملكون قصوراً فيها من /60/ إلى /100/ غرفةـ أن تجعل الغرف في وضع بحيث لا يكون ثمت إحراج بين شتى الأزواج في أن يقابل كل منهم زوجة غيره فلم يكن عليهم أن يسيروا مسافة طويلة إلى غرف النوم الأخرى. وإذا قرأتَ كتاب "جيني" Jennie، عن أم تشرتشل، وجدتَ أن هذه الأم قد تعوّدت أن تنام مع الرجال الذين يمكن أن تكون لهم فائدة لتشرتشل. ولم يقل تشرتشل ذلك في كلمات كثيرة، ولكنه وجد أن واجب الأم هو في الحقيقة مساعدة ابنها في مجرى حياته. ولم تكن هناك أسئلة أو شكوك حول الشرعية، من أي نوع أخلاقي. وهكذا لم يكن هذا أمراً جديداً فهو بالفعل حال من الأحوال التي يمكن أن نراها اليوم حيث هبطت عادات الطبقات العليا السابقة إلى الطبقتين الوسطى والدنيا والتي هي نموذج ثقافي يمكنك أن تراه في مجتمعنا بأسره.‏
ديناميات النمو النفسي وحرية الإنسان‏
قال أوسفالد شبنغلر Oswald Spengler في كتابه أفول بلاد الغروب Der Untergang des Abendlandes إن الغرب سيسقط، والثقافة الغربية سوف يُقضى عليها، نتيجةَ ما يكاد يكون قانون الطبيعة، لأن تفسيره كله كان أن الثقافات تنمو وتهرم وتموت مثل النبات، مثل أي كائن عضوي ينمو ويموت. وصاغت روزا لوكسمبورغ Rosa Luxemburg رؤيتها المنذرة بالشر على أساس الخيار: هناك خيار، هناك بديل؛ يمكن أن يكون هذا أو ذلك، ولكن لا يوجد خيار ثالث.‏
وعلى المرء ألا ينظر إلى الاختلاف بين رؤية شبنغلر ورؤية لوكسمبورغ للتاريخ على أنه مجرد هامش. فثمت نوعان من الجزم. أحدهما التنبّؤ بالعاقبة الوحيدة: فالحتمية هي بمعنى وجود عاقبة واحدة وحيدة، وهذه ستحدث. أو هناك حتمية البديلين، التي لا تقول إن عاقبة واحدة هي الضرورية، بل إن خياراً معيناً هو الضروري: وهو يمكن أن يكون هذه العاقبة أو تلك، ومن الممكن أن تكون هناك عاقبة ثالثة، ولكن لا وجود لأخرى. وذلك مهم بصورة خاصة فيما يتعلق بمشكلة الحتمية، لا حتمية التاريخ والمجتمعات وحسب بل كذلك حتمية الأفراد.‏
وفيما يتصل بالشخص نادراً ما يمكن لك أن تقول ـ على الأقل على أسس نظرية سليمة ـ إن هذه النتيجة محتومة الحدوث. ولكنك في العادة تستطيع أن تقول:إن هذا الخيار محتوم الحدوث. وإذا وضعنا الخيار بمصطلحات عامة جداً قلنا مثلاً، إنه إما أن يكبر أكثر، وإما أن يموت، بالحديث النفسي. وفي كل حالة يكون الاختلاف هو ما هي القوة النسبية لكلا الخيارين. وقد يكون خيارُ أن ينجح الشخص إنسانياً واحداً بالمائة، ولكنه يظل خياراً وليس حتمية بالمعنى الأقدم وهو أن عاقبة واحدة هي الضرورية.‏
ويرفض جل الناس أن يعترفوا في حياتهم أنهم مجابَهون بخيار. وأنهم يستطيعون أن يذهبوا في هذا السبيل أو ذلك. ويعتقدون أن لديهم كل أنواع الخيارات وأن ذلك غير واقعي غالباً، لأنهم بالنظر إلى ماضيهم، بالنظر إلى وضعهم، لا نملك أية خيارات متعددة.‏
[إن ديناميات النمو النفسي في الإنسان شبيهة بديناميات لعبة الشطرنج:] عندما يبدأ لاعبان تكون فرصهما متساوية عملياً: ذلك يعني أن كل لاعب حر في أن يربح. وقد تقولون إن اللاعب الذي لديه الأحجار البيضاء لديه فرصة أفضل قليلاً لأنه يبدأ، ولكننا قد نصرف النظر عن ذلك هنا. ولنفترض أنهما لعبا خمس نقلات، وأن الأبيض ارتكب خطأ، فإن فرصته في الفور تنخفض بمعدّل ست عشرة في المائة. وعلى أية حال، يظل بوسعه أن يفوز شريطة أن يقوم بنقلات بالغة الجودة بعد ذلك، أو أن يرتكب خصمه غلطاً. وبعد عشر نقلات أخرى، ربما لم يعوّض الأبيض عن غلطه الأول بل ارتكب خطأ آخر. وهو نظرياً لا يزال يمكن أن يربح، ومهما يكن، فإن فرصته في الفوز قد انخفضت من الخمسين إلى الخمسة في المائة؛ ومع ذلك يمكنه أن يربح. ولكن تمر بعد ذلك لحظة يرتكب فيها خطأ آخر. والآن لم يعد لـه بعد ذلك أن يفوز البتة. فمن المحال وفقاً لقوانين الشطرنج أن يربح إلا إذا كان خصمه من الغباء إلى حد أن يرتكب غلطة فاحشة للغاية لا ريب أننا لا نستطيع أن نفترضها وهي أمر لا يحدث بين لاعبي الشطرنج الجيدين. وفي تلك الآونة يستسلم اللاعب الجيد، لأنه يعلم مسبّقاً أنه ليس بالإمكان أن يتمكّن من الفوز. واللاعب الرديء يستمر في اللعب لأنه لا يستطيع أن يتنبأ بالنقلات القادمة ويظل آملاً وهو في الواقع ليس في مستطاعه بعدُ أن يفوز. إن عليه أن يقاتل حتى النهاية حين يرى حقاً أن شاهه قد مات وأنه لم يعد يستطيع القيام بأية نقلة. ثم يعترف بأنه مغلوب.‏
ماذا تعني هذه المقارنة في تطبيقها على الوضع الإنساني، على حياتنا كلنا؟ خذوا مثلاً صبياً صغيراً من أسرة واسعة الثراء في نيويورك. كان في سن الخامسة يلعب مع صبي أسود صغير أحبه. وكان ذلك طبيعياً تماماً، فهو لم يعرف بعدُ هذه الفوارق. ثم تقول أمه، بالأسلوب العذب الذي تتحدث به الأمهات الحديثات: "تعرف، يا جوني، أنني أعرف أن هذا الصبي جيد مثلنا، وهو صبي رائع، ولكنك تعرف أن الجيران لا يفهمون ذلك، وسيكون من الأفضل لو أنك لم تلعب معه. وأنت تعرف أنني أعرف أنك لا تحب ذلك ولكنني سأصحبك إلى ملعب الحيوانات الجوّال (السيرك) هذه الليلة." ولعلها تجعل ذلك أقل وضوحاً، فهي لا تقول أبداً إن ذلك مكافأة، ولكنها تصطحبه إلى ملعب الحيوانات أو إلى أي مكان غيره أو تشتري لـه شيئاً ما.‏
واحتجّ جوني الصغير في البداية وقال: "لا، ولكنني أحب هذا الصبي الصغير!" ثم يقبل في آخر الأمر الدعوة إلى ملعب الحيوانات. وكان ذلك غلطه الأول، إحباطه الأول. لقد تحطم شيء ما في استقامته، في إراداته. وقد أخطأ في النقلة الأولى، إذا قارن المرء ذلك بالشطرنج.‏
ولنقل إن جوني يقع بعد عشر سنوات في حب فتاة. وهو يحبها حقاً ولكن الفتاة فقيرة، ولا تأتي من الأسرة المناسبة ولا يعتقد الأبوان أنها فتاة ينبغي للصبي أن يكون على علاقة بها. ومن جديد فإنهما على الأسلوب الحديث لا يقولان لـه ما كان من شأن أجدادهما أن يقولوه: "اسمع، ذلك محال، فالفتاة آتية من أسرة لا نتزاوج معها." ولكن الأم تقول:" هذه فتاة ساحرة ولكنك تعلم أنك إزاء خلفيتين مختلفتين وينبغي أن تكون للناس خلفيات متشابهة حتى تجعلهم سعداء... ولكنك تعلم أنك حر تماماً في أن تتزوجها أو لا، فالأمر كله متروك لك... إلا أنك تعرف أنك تستطيع السفر إلى باريس والمكوث مدة سنة وهنالك بوسعك حقاً أن تراجع نفسك وتفكر، فإن أردت أن تعود من باريس وأنت لا تزال تريد أن تتزوجها، فتزوجها".‏
ويقبل جوني. وهذا هو الإحباط الثاني، الذي على أية حال يخفّفه الإحباط الأول و الكثير من الإحباطات الصغيرة من النوع نفسه. لقد تم شراؤه. وتحطم بذلك احترامه لنفسه، وعزة نفسه، وكرامته، وإحساسه بذاته. ومادام العرض قد قُدّم بهذا التبرير العقلي، فهو مُغرٍ جداً لأنه يرتدي شكل " أنت حر تماماً في أن تتزوجها وترحل إلى باريس"، ولكنه في الآونة التي قِبل فيها بطاقة السفر، كان قد تخلّى عن الفتاة من دون معرفة ذلك. وهو مقتنع أنه لا يزال يحبها وسوف يتزوجها. وهكذا ففي الأشهر الثلاثة الأولى يكتب إليها من باريس أروع رسائل الحب، ولكن لا شعوره يعلم مسبّقاً أنه لن يتزوّجها لأنه قبل الرشوة.‏
ومتى ما قبلتَ الرشوة عليك أن تسلّم. وعندئذ يدخل في ذلك عنصر أخلاقي ثان: عليك أن تكون صادقاً، فلا يمكن أن تقبل رشوة من دون تسليم، وإلا قضيت على نفسك. ولذلك، ولاشك، يجد في باريس فتيات أخريات، وهكذا بعد السنة حدثت أمور كثيرة. ويصل إلى النتيجة التي هي أنه في الحقيقة لا يحب تلك الفتاة كثيراً، وهو واقع في الحب مع فتيات أخريات كثيرات. وبضمير مذنب قليلاً، يشرح للفتاة لماذا لا يحبها. ويقوم بذلك مرتاح البال لمجرد أنه يكاتبها أقل فأقل. وهكذا لا يكون التحول مفاجئاً وصادماً جداً. ويمكن في أثناء ذلك أن تتفطّن للأمر كله وتكتب إليه أنها قطعت علاقتها به، إذا كان لديها أي فهم.‏
وفي سن الثلاثة والعشرين يكون على جوني أن يدخل مدرسة التخرج. والسؤال هو ماذا يريد حقاً أن يعمل. إن أباه محام شديد النجاح وهو يريده أن يغدو محامياً، لكثير من الأسباب الواضحة. على أن الابن كان في الحقيقة مهتماً بالهندسة المعمارية، وكان مهتماً بها منذ أن كان طفلاً. ولذلك يُصر على دراسة الهندسة المعمارية. ثم يرسم أبوه صورة تعبّر عن أنه مصاب باعتلال في القلب ويمكن أن يموت عاجلاً وأنه هو الذي سيتكفل برعاية الأم. وبعد كل ما قدّمه إليه ـ الرحلة إلى باريس وهلم جرا ـ كم يكون الابن جاحداً الآن بخذلانه لـه، وكيف كانت آماله وكيف سيكون شقياً، وعلاوةً، ماذا يكسب لو صار مهندساً معمارياً، وماذا يكسب في مكتب أبيه عندما يُمسي رئيس مكتبه... ويقوم الابن بمعركة دفاعية صغيرة وفي مآل الأمر يُذعن. وربما يشتري لـه أبوه في تلك الآونة سيارة مكشوفة جميلة جداً. وبرغم أن ثمت شروطاً ملحقة بها، فلا يمكن أن يقال إنها رشوة.( ولكن ذلك لا يحدث في الشؤون السياسية كذلك: فالرشوة لا تُذكر بعبارة مكتوبة:"أعطيك مائة ألف دولار للتصويت لصالح هذا القانون." ومائة ألف الدولار تُعطى ومفهوم أن الشخص الآخر سوف يفهم من أجل ماذا يعطونه المبلغ.) وفي تلك اللحظة يضيع الشاب. لقد باع نفسه بتمامها، وأضاع احترامه لذاته كلَّه، وفقد عزة نفسه، وفقد سلامته، وقام بأمر لا يحبه وسوف يُمضي بقية عمره يعمل ما لا يحب ـ ثم من المحتمل أن يتزوج امرأة لا يحبها حقاً، ويكون ضجراً من مهنته، وما إلى ذلك.‏
كيف وقع في هذا الوضع؟ ليس بحادثة وحيدة مفاجئة بل بتراكم أحداث صغيرة، بتراكم خطأ بعد آخر. وعندما كان لديه بعدُ وهو في البداية الكثير من الحرية، أخذ يفقد هذه الحرية باطّراد متزايد، حتى وصل إلى المرحلة التي احتفت فيها بصورة عملية.‏
إن الحرية ليست شيئاً نملكه، فلا وجود لحرية من هذا القبيل. الحرية صفة مميزة لشخصيتنا: فنحن إلى هذا الحد أو ذلك أحرار في مقاومة الضغط، وأحرار بزيادة أو نقصان في أن نعمل ما نريد وفي أن نكون أنفسنا. الحرية هي على الدوام مسألة زيادة الحرية التي لدى المرء، أو نقصها. ويمكن أن تقولوا إنه في مرحلة معينة تخلى هذا الشاب عملياً عن كل آماله، على الرغم من أنه في تلك الآونة بوسع المرء أن يقول إن حادثة يمكن أن تحدث، حادثة غير عادية، نادراً ما تحدث للشخص، وليس على المرء أن يخاطر بحياته فيها، ولكنها يمكن حتى في سن الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أن تُحدث تبّدلاً وتحوّلاً عميقين. ولكن كل من ينتظر ذلك فإنه غالباً ما ينتظر عبثاً، لأنه نادر إلى أقصى الحدود.

TAG

عن الكاتب :

أستاذ الاجتماعيات، شاعر،كاتب،إعلامي، وفاعل جمعوي للتصال الاكتروني :jilaliprof@gmail.com

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *