اخر الاخبار

السبت، 6 نوفمبر 2010

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي - القسم الثاني

الجوانب العلاجية في التحليل النفسي: ـ الفصل الرابع ما التحليل النفسي؟
هدف التحليل النفسي‏
إن السؤال الذي أود أن أبدأ به هو في الوقت عينه سؤال أساسي لكل ما يلي: ما هدف التحليل النفسي؟ والآن إن ذلك سؤال جدّ بسيط وأعتقد أنه يوجد جواب جدّ بسيط. معرفة المرءِ ذاتَه. والآن فإن "معرفةَ المرءِ ذاتَه" حاجة إنسانية شديدة القدم، فمن اليونان إلى العصور الوسطى إلى العصور الحديثة تجدون أن معرفة المرء نفسَه هي أساس معرفة العالم أو ـ كما يعبّر ما يستر إكارت Meister Eckhart عن ذلك ـ في صيغة قوية التأثير جداً: "إن سبيل المرء الوحيد إلى معرفة الله هو أن يعرف نفسه". إن ذلك مطمح من أقدم المطامح البشرية. وهو مطمح أو مأرب لـه جذوره في عوامل شديدة الموضوعية.‏
كيف للمرء أن يعرف العالم؟ كيف للمرء أن يعيش ويستجيب كما ينبغي إذا كانت تلك الأداة التي ستعمل، والتي ستقرر، مجهولة بالنسبة إلينا؟ نحن المرشد، والقائد لهذا الـ"أنا" الذي يتصرف على نحو ما لنعيش في العالم، ونكوّن القرارات، ونولي الأولويات، وتكون لنا قيم. فإذا كان هذا الـ"أنا"، هذا الفاعل الأساسي الذي يقرر ويفعل، لا نعرفه كما ينبغي فإنه ينجم عن ذلك أن كل أفعالنا، وكل قراراتنا قد تمت بحالة نصف عمياء أو بحالة نصف متيقّظة.‏
على المرء ألا يحسب أن الإنسان يوهَب بالغرائز مثل الحيوانات، فتقول لـه كيف يتصرف إذ ليس عليه أن يعرف أي شيء إلا ما تقوله لـه غرائزه. وهذه الفكرة تقتضي التحفّظ، لأنه حتى في المملكة الحيوانية يحتاج الحيوان، وحتى الحيوان من أدنى مستوى في التطور، أن يتعلم شيئاً ما. فالغرائز لا تعمل من دون حد أدنى من التعلّم على الأقل. ولكن ذلك التعلّم هو أصغر مسألة. فعلى العموم، ليس على الحيوان أن يعرف الكثير، برغم أن عليه أن يمتلك تجربة ما تنتقل إلى الذاكرة.‏
ولكن على الإنسان أن يعرف كل شيء لكي يقرر. فغرائزه لا تقول لـه أي شيء حول مسألة كيف يقرر باستثناء أنها تقول لـه إن عليه أن يأكل، ويشرب، ويدافع عن نفسه، وينام، ومن الممكن أنه ينبغي أن ينجب الأولاد. ويمكن أن تقولوا، إن حيلة الطبيعة هي أن تهبه لذة أو شهوة ما إلى الإشباع الجنسي. ولكن تلك الشهوة ليست قوية في الدوافع والبواعث الأخرى قوتَها في المطلب الغريزي. وهكذا فإن معرفة المرءِ ذاتَه شرط لا من وجهة النظر الروحية أو ـ إن أردتم ـ الدينية، أو الأخلاقية، أو الإنسانية وحسب، إنها مطلب من وجهة النظر البيولوجية.‏
لأن أفضل ما يمكن من الاقتدار في العيش يعتمد على الدرجة التي نعرف بها أنفسنا بوصفنا الأداة التي عليها أن توجّه نفسها في العالم وتكوّن القرارات. وكلما كنا أفضل معرفة لأنفسنا، فمن الواضح كانت القرارات التي نكوّنها أصحَّ. وكلما قلّت معرفتنا بأنفسنا، فلابد أن تكون القرارات التي نشكّلها أشد تشوّشاً.‏
إن التحليل النفسي ليس مجرد علاج، بل هو وسيلة لفهم الذات. أي أنه وسيلة للتحرر الذاتي، وسيلة في فن العيش، وهي في رأيي أهم وظيفة يمكن أن تكون للتحليل النفسي.‏
وأكبر قيمة للتحليل النفسي هي حقاً توفير التغيّر الروحي للشخصية، وليست الشفاء من الأعراض. وبمقدار ما يوجد التحليل للشفاء من الأعراض، فذلك رائع إذا لم تكن هناك شفاءات أجود وأقصر، ولكن الأهمية التاريخية والحقيقية للتحليل النفسي تسير في اتجاه تلك المعرفة التي تجدونها في التفكير البوذي. فهذا النوع من الإدراك الذاتي ـ التنبّه ـ يؤدي دوراً محورياً في الممارسة البوذية لتحقيق حالة وجودية أفضل مما يحقق الإنسان العادي.‏
ويزعم التحليل النفسي أن معرفة المرءِ نفسَه تفضي إلى الشفاء. حسناً، إن ذلك زعم قد سبق أن قيل في الأناجيل: "الحقيقة سوف تحرركم". (إنجيل يوحنا: 8: 3) فلماذا معرفة المرءِ لا شعورَه، أي المعرفة الذاتية التامة، تساعد الشخص على التحرر من الأعراض وحتى تجعله سعيداً؟‏
الهدف العلاجي عند زيغموند فرويد ونقدي له‏
أود بدايةً أن أقول كلمة عن الأهداف العلاجية في التحليل النفسي الفرويدي الكلاسيكي. وقد كان الهدف العلاجي، كما عبّر عنه فرويد ذات مرة، هو جعل الشخص قادراً على العمل وقابلاً لتأدية وظيفته جنسياً. وإذا صنفنا ذلك بمصطلحات موضوعية أفضل قلنا: إن هدف التحليل النفسي هو جعل الشخص قادراً على العمل وإعادة الإنتاج. وهذان هما بالفعل المطلبان الكبيران للمجتمع، يطالب بهما المجتمع كل فرد. ويعني ذلك أن يوحي إلى الناس ويلقّنهم تفسيراً للسبب الذي يجعل من واجبهم أن يعملوا وأن ينجبوا الأطفال. حسناً، نحن نقوم بذلك كيفما كان لأسباب كثيرة. إن الدولة لا تجد عناء كبيراً في استمالة الناس إلى القيام بذلك، ولكن إذا احتاجت في أي وقت إلى أطفال أكثر مما يُنجب، فإنها ستعمل كثيراً للحصول على العدد المرغوب فيه من الأطفال بكل أنواع الوسائل.‏
وتعريف فرويد لما هو في الحقيقة الصحة الذهنية تعريف اجتماعي من حيث الأساس. إنه القول بأن يكون طبيعياً بالمعنى الاجتماعي. إن الإنسان سوف يؤدي وظيفته وفقاً للمعايير المحتذى بها اجتماعياً. وكذلك العَرَض المَرضي محدَّد اجتماعياً: إن العَرَض المرَضي يكون عَرَضاً مَرَضياً عندما يكون من العسير عليك أن تعمل اجتماعياً على الوجه الصحيح. فإدمان المخدّرات، مثلاً، يُعدّ عَرَضاً مَرَضياً خطيراً. والتدخين الاضطراري ليس كذلك. لماذا؟ إنه الأمر نفسه من الوجهة السيكولوجية. ولكن الاختلاف كبير جداً، من الوجهة الاجتماعية. فإذا تعاطيتَ أنواعاً معينة من المخدّرات منعك ذلك من الأداء الاجتماعي الصحيح في أحوال كثيرة. وأنت نفسك تستطيع أن تدخّن حتى الموت ـ من يهتم؟ فإذا متَّ من سرطان الرئة، فهذه ليست مشكلة اجتماعية. والناس سوف يموتون على أية حال. ولكنك إذا متَّ من سرطان الرئة وأنت في الخمسين ـ طيب، عندما تكون في الخمسين لا تكون عندئذ مهماً من الوجهة الاجتماعية! ومهما يكن فقد أنجبت العدد المناسب من الأولاد، وعملت في المجتمع، وبذلت أقصى مستطاعك؛ إن هذا غير جدير بالاهتمام، إنه لا يتعارض مع وظيفتك الاجتماعية.‏
إننا نعلن أن شيئاً ما عَرَض مَرَضي عندما يتعارض مع الوظيفة الاجتماعية. وذلكم هو السبب في أن الشخص الذي ليس لـه أقل قدر من الخبرة الذاتية، ولا يرى الأشياء إلا واقعياً بصورة كليةً يُفترض أنه صحيح نفسياً. على الرغم من أنه مريض كالذُّهاني الذي لا يستطيع أن يتبيّن أن الواقع شيء يمكن أن يُساس أو شيء يمكن الاحتيال عليه، ولكنه يستطيع أن يتبيّن هنا شيئاً، هو إحساس، إحساس أشد رهافة، خبرة داخلية يتعذّر على من يسمى الإنسان الطبيعي الوصول إليها.‏
إن التعريف الفرويدي هو في ماهيته تعريف اجتماعي، وهذا ليس نقداً بالمعنى الضيق للكلمة لأنه كان إنسانَ قرنِه ولم يشك في مجتمعه. ولم يكن ناقداً لمجتمعه باستثناء أنه شعر أن المحرَّم المرتبط بالجنس كان قوياً جداً. ويجب تخفيفه بعض الشيء. وكان فرويد نفسه إنساناً بالغ الإفراط في الاحتشام ـ محتشماً للغاية ـ وقد كان من شأنه بالتأكيد أن يكون مصدوماً للغاية أن يرى نوع السلوك الجنسي الآن الذي يُزعَم أنه نتيجة تعليمه. وليس الأمر كذلك في الواقع. ولفرويد علاقة طفيفة بذلك. إن السلوك الجنسي العام هو جزء من النزعة الاستهلاكية العامة.‏
كيف قدَّم فرويد الأسباب لغايات التحليل النفسي التي وضعها؟ لنقل ببساطة، إنه عند فرويد أن ما يشفى يكون مرتبطاً بحادثة في الطفولة الباكرة. وهذه الحادثة مكبوتة. ولأنها مكبوتة تظل تعمل. وبما يسمى الإجبار على التكرار يكون الشخص مرتبطاً بهذه الحادثة الباكرة بطريقة لا تعمل لمجرد جمودها، ولأنها موجودة لا تتوقّف عن العمل، بل كذلك يكون الشخص بالإجبار على التكرار مجبَراً أن يكرر النموذج نفسه مرة بعد أخرى. فإذا وصل هذا النموذج إلى الوعي فعندئذ تكون طاقتها إذا جاز القول قد تمت خبرتها بشكل كامل وتمّ تذكّرها ولكن ليس عقلياً، كما رأى فرويد بعد قليل، بل عاطفياً؛ وإذا حدث ما سماه "العمل من خلال" ـ فإن قوة هذه الصدمة تتصدع ويتحرر الشخص من هذا التأثير المكبوت.‏
إن لديّ شكوكاً جِدّية في صحة هذه النظرية. وأود أولاً أن أخبركم عن تجربة شخصية عشتها عندما كنت طالباً في المعهد التحليلي النفسي في برلين (من 1928 إلى 1930). ذات يوم كان بين أساتذتنا نقاش طويل ـ كيف يحدث غالباً أن يتذكر المريض حقاً تجاربه الصادمة القديمة. قال جُلّهم إن ذلك جدّ نادر. وانزعجتُ بشدة؛ فقد كنت طالباً نجيباً مخلصاً؛ وآمنتُ بذلك ثم بغتة أسمع أن ذلك الأمر عينه الذي يُفترض أن يكون أساس الشفاء يحدث بصورة نادرة جداً.‏
وفي نظري أن الصدمة النفسية نادرة بالفعل جداً وهي في العادة تجربة فريدة؛ ولابد في الحقيقة أن تكون صادمة بصورة غير عادية تماماً ليكون لها تأثير قوي. إلا أن الأمور الكثيرة التي يقال إنها صادمة، أي أن يضرب الأب الولد ذات مرة، وهو في سن الثالثة، عندما كان مستشيطاً غضباً ـ نشدتكم الله، إنها ليست حادثة صادمة. إنها حادثة عادية تماماً لأن التأثير يشكّله جو الأبوين، جو الأسرة الكلي والمستمر والدائم، لا الأحداث المفردة. ولا يكون لحادثة مفردة مثل هذه الآثار كما لابد أن يكون في حالة الصدمة الحقيقية إلا نادراً. ويتحدث الناس اليوم عن الصدمة الحقيقية لأنه فاتهم القطار أو حدثت لهم تجربة كريهة في مكان ما. إن الصدمة النفسية هي بتعريفها حادثة تتجاوز العبء الذي يمكن أن تتحمله الدورة العصبية البشرية. وبهذا المعنى فإن جل الصدمات النفسية شديدة الندرة وما يسمى في أغلب الأحيان صدمة هو في الحقيقة كل تلك الأمور التي تحدث في الحياة والتي لها تأثير طفيف. وما لـه تأثير إنما هو الجو المتواصل.‏
وقد تحدث الصدمة في أي سن، ولكن الحادثة الصادمة نفسها سيكون لها عندما تحدث أثر أكبر من أثر الحادثة الأولى. ولكن في تلك الحالة وفي الوقت نفسه فإن القدرات على التعافي عند الطفل تكون أكبر كذلك. إنها مشكلة معقدة حقاً، وأنا لا أحذّر إلا من الاستخدام الفضفاض لكلمة الصدمة، الذي أجده اليوم متكرراً كثيراً.‏
وقد رأيت عدداً غير قليل من الناس يتغيرون من خلال العملية التحليلية. ورأيت عدداً غير قليل من الناس لا يتغيرون. ولكن الحقيقة كذلك هي أن الأفراد يتغيرون أساسياً من دون تحليل. انظروا إلى أمر بسيط رأيناه في السنتين الأخيرتين. هناك عدد من الناس كانوا في أذهانهم صقور الحرب في فييتنام، وضباط "القوة الجوية" المحافظين وما إلى ذلك. ويظل هؤلاء الناس في فييتنام، يعيشون تلك التجربة، ويرون انعدام الحس والظلم والوحشية، وبغتة يأتيهم أمر كان من شأن المرء في أقدم الأزمان أن يدعوه هداية، أعني فجأة يرى هؤلاء الناس العالم مختلفاً كل الاختلاف ويتحولون من أناس محبّذين للحرب إلى أناس يجازفون بحياتهم أو حريتهم لإيقاف الحرب. والناس الذين لا تود أن تعترف بهم، يمكن أن تقول إنهم ليسوا بأنفسهم أناساً مختلفين، بل بتجربة تستوقف الانتباه، أي بقدرة على الاستجابة لها. وهذه القدرة ليست موهوبة لجلّ الناس لأنهم كانوا قد أمسوا بليدي الإحساس إلى حد بعيد. على أن هذه التبدّلات العميقة تحدث تحليلياً وخارج التحليل، وأعتقد أننا تقريباً نملك الدليل على ذلك. ويمكن أن نراه مرة بعد أخرى.‏
مفهوم فرويد للطفل ونقدي له‏
كان فرويد نقدياً للغاية، كما يعرف كل من قرأ القليل عن فرويد، فيما يتصل بموضوعه الخاص وهو موضوع الفكر الشعوري في علاقته بالباعث اللا شعوري. ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يُتّهم بأنه لم يكن ناقداً جذرياً للفكر الشعوري. ومع ذلك فحين يصل الأمر إلى المجتمع الذي عاش فيه فرويد، وقواعده وقيمه، فقد كان إصلاحياً من حيث الأساس. ذلك يعني أنه اتخذ الموقف الذي اتخذته الطبقة الوسطى عموماً: هذا العالم هو أصلاً أفضل العوالم، ولكن يمكن تحسينه، فلعله تكون لدينا فترات سلام أطول، ويعامَل السجناء معاملة أفضل. ولم تكن الطبقة الوسطى تسأل أسئلة جذرية، كالسؤال المتعلّق بعلم الإجرام مثلاً. فكل ما لدينا من نظام في علم الإجرام أو العقوبات إنما هو قائم كلياً على البنية الطبقية. ولم يكونوا يسألون: أليس المجرم إنساناً قبل كل شيء صار مجرماً لأن هذه هي طريقته في العثور على الحد الأدنى من الاكتفاء الذي لا يمكنه الحصول عليه بطريقة أخرى؟ ولا أريد أن أدافع هنا عن اللصوص والسّلابين. وأعتقد أن ثمت بعداً آخر يجعل اللصوصية والسلب أمرين كريهين تماماً. ولكن مع ذلك، فإن كل نظامنا المتعلق بالقانون الجنائي قائم على البنية الكلية للمجتمع التي تسلّم بصحة أن الأكثرية الساحقة ـ كما يمكن للمرء أن يقول بكياسة ـ لا تتمتع بأي أي امتياز، وأن الأقلية تتمتع بالامتيازات المفرطة. وقد كانت هذه هي الحال في مذهب الحل السلمي غير الجذري فيما يتصل بتخفيض الجيوش؛ ولابد للأطروحات من أن تضمن السلام.‏
وهكذا فقد كان التحليل النفسي حركة لجعل الحياة أفضل ببعض الإصلاحات في الوعي. ولكنه لم يشك جذرياً في قيمة المجتمع الراهن وبنيته. وقد كان فرويد، مع تعاطفاته، في جانب الذين كانوا يهيمنون ـ في جانب المؤسسة. حسناً، يمكن أن تروا ذلك في موقف فرويد من الحرب العالمية الأولى. لقد اعتقد حتى 1917 أن الألمان سينتصرون. وكان ذلك هو العام الذي طرأ فيه على معظم الناس شيء من المعرفة تغلّب على معتقداتهم بأن الألمان سوف يربحون في الحرب. وأفكر في رسالة كتبها فرويد: "إنني سعيد للغاية أن أكون في هامبورغ، وأن يكون في مقدوري أن أقول <<جنودنا، انتصاراتنا>>"، لأنها كُتبت في ألمانيا. واليوم يلوح ذلك الواقع رهيباً حقاً. وعلى المرء أن يفهم التأثير الخيالي، التأثير الباهر في ضمير حتى أشد الناس ذكاء وخلافهم من المحترمين في الحرب العالمية الأولى.‏
ولا يمكنكم أن تفهموا ذلك إلا إذا قارنتموه بفييتنام في أسوأ أحوالها. لم تكن ثمت معارضة للحرب تقريباً في الحرب العالمية الأولى، وتلك كانت إحدى المآسي حولها. وكان أينشتاين أحد الاستثناءات القليلة التي رفضت تأييد الحرب، إلا أن الأكثرية الساحقة من المفكرين الألمان أو المفكرين الفرنسيين قد وافقت على الحرب. ولذلك فإن قول فرويد ليس بالأمر الشاذ، وليس بالقول القوي كما يمكن أن يظهر خارج السياق، ومع ذلك فهو قوي جداً إذا أخذتم في الاعتبار أنه كان متأخراً. وقد كتبه رجل مثل فرويد الذي دعا نفسه سنة 1925 في رسالة متبادلة مع أينشتاين "داعية إلى السلام".‏
كيف رأى فرويد الطفل؟ في الأصل عندما سمع فرويد الأخبار عن أن المرضى يغويهم آباؤهم، فالآباء يُغوون الفتيات والأمهات يُغوين الفتيان، اعتقد أنها أخبار عن أحداث حقيقية. وعلى حد علمي من المحتمل أن يكون الأمر كذلك. على أن فرويد سرعان ما غيّر وجهة نظره وقال: لا، لقد كانت كل هذه الأخبار أُخيولات. فلا يمكن أن يفعل الآباء ذلك، والآباء لا يفعلونه، ولم يكن ذلك صحيحاً. وإذن فإن أطفال هؤلاء الناس قد سردوا هذه القصص لأنهم كانوا يتكلمون عن أخيولاتهم. لقد كانوا يرون هذه الأخيولة المتعلقة بسفاح الحُرُم عن النوم مع الأب، أو مع الأم، أو أية حالة يمكن أن تكون. وكل هذه القصص هي البرهان على أخيولة الطفل الصغير نصف الإجرامية والمتعلقة بسفاح الحُرُم.‏
وكما تعلمون، يشكل هذا الرأي الدرك الأسفل في النظرية التحليلية النفسية، أي الرأي القائل بأن الطفل، هو الصغير الذي سبق أن امتلأ –كما دعاه فرويد- بالأُخيولات المنحرفة متعددة الأطوار. وكان فرويد يقصد في الحقيقة أمراً شديد السوء، وهو أن هذا الطفل طفل جشع، ذكراً كان أو أنثى، لا يفكر في شيء سوى كيف تغري أباها أو كيف يُغري أمه- مع الرغبة في النوم معهما. ولا ريب أن ذلك قد حرف وجهة النظر التحليلية النفسية إلى اتجاه مغلوط فيه. أولاً، لقد أدّى إلى الافتراض النظري أن هذه الأُخيولات المتعلقة بسفاح الحُرُم إنما هي جزء من أُهبة الطفل. ثانياً، أنه في تحليل شخص من الأشخاص يجب على الدوام أن تفترض أن كل شيء من هذا القبيل يرويه المريض إنما هو ناجم عن أُخيولته ويحتاج إلى أن يُحلَّل ولا يمثّل الواقع.‏
وكان مبدأ فرويد من حيث الأساس هو: الطفل وليس الأبوان هو "الآثم". وهذا يمرّ بوضوح شديد في تواريخ الحالات عند فرويد. وقد أظهرتُ ذلك مع بعض الزملاء في تعليقات على "حالة هانس الصغير" (E. Fromm et al., 1966k) كان فرويد يدافع دائماً عن الآباء، حتى الذين هم أنانيون، معادون، مناوئون على نحو أوضح ما يكون. وهذا الطفل الذي لـه هذه الأُخيولات عن اقتراف سفاح الحُرُم (وليس سفاح الحرم وحسب، فلا شك أن الطفل كان يريد بعد ذلك أن يقتل الأب، ويغتصب الأم)، كان هذا الطفل، كما قال فرويد نفسه، "مجرماً مصغّراً".‏
إن هذه الصورة للطفل بوصفه "مجرماً مصغّراً" على المرء أن يفهمها دينامياً على أنها نتيجة الحاجة إلى الدفاع عن السلطة الوالدية: الدفاع عن السلطة وكذلك عن الوالدين. ولو أنعمتم النظر إلى معظم الأطفال، لوجدتم بالفعل أن المحبة الوالدية –كما قال لانغ Laing على نحو صحيح تماماً- قناعاً للسيطرة التي يريد أحد الوالدين أن يفرضها على الطفل. ولا أعني أنه لا توجد استثناءات. فهناك استثناءات حقيقية، وهناك بعض الآباء المحبّون، وقد رأيت بعضهم. ولكن على الإجمال، لو قرأتم تاريخ معاملة الآباء لأطفالهم عبر العصور، ورأيتم تاريخ الناس اليوم، لرأيتم بالفعل أن الهم الأكبر عند جلّ الآباء هو السيطرة على الأطفال، وأن محبتهم هي ما أود أن أدعوه نوعاً من المستوى السادي: "أنا أريد خيرك، وأحبك بالنظر إلى أنك لا تحاول التمرد على سيطرتي".‏
إنها محبة في المجتمع الأبوي (البطريركي)، من الأب، ومن الزوج نحو الزوجة؛ وقد كان الأطفال مِلكيّة منذ أيام "روما" ولا يزالون مِلْكية. ولا يزال للوالد الحق المطلق في التخلّص من طفله. وثمت محاولات قليلة في مختلف البلدان الآن لتغيير ذلك وتعيين محكمة، تحرم الوالد الحق في تنشئة الطفل إذا كان ثمت سبب خطير للاعتقاد بأنه غير أهل لتربية الطفل. وهذا كله من قبيل الإفراط في تغطية العين، لأنه حتى المحكمة التي تحكم بعدم كفاءة الأبوين، قضاتها هم أنفسهم آباء تعوزهم الكفاءة تماماً – فكيف يمكن أن يحكموا بذلك؟ وعلاوة على حب الأمهات النرجسي بعض الشيء وشبه الغريزي نوعاً ما لأطفالهن الصغار، فعندما يصلون إلى العمر الذي يُظهرون فيه العلامة الأولى على إرادتهم، ومنذ ذلك الحين فصاعداً يكون الميل إلى السيطرة والتملّك هو السائد. وعند معظم الناس، فإن إحساسهم بالقوة، والسيطرة وامتلاك الأهمية، وتحريك شيء ما، وشعورهم بأن لديهم شيئاً ما يقولونه يكون بامتلاك الأطفال. لذلك – ما أقوله ليس صورة سيئة النية عن الآباء، بل هي طبيعية جداً. وأنتم ترون أن الطبقة العليا البريطانية لم تكن تبالي البتة بأطفالها. وللطبقات العليا في أوربا مربيات ومعلمات خصوصيات للأطفال وما إلى ذلك؛ ولا تهتم الأمهات بأطفالهن على الإطلاق، لأن في الحياة وفرة من صنوف الاغتباط. ولديهن شؤونهن المتعلقة بالحب، ولديهن حفلاتهن، وما كان يثير اهتمامهن – في إنجلترا- إنما هو ما لديهن من الخيل وما إلى ذلك.‏
ويُنظَر إلى الأطفال على أنهم مِلكيّة ما دامت الرغبة في الامتلاك عند الناس هي الصفة المميزة السائدة في بنية طبعهم. ويوجد أناس لا تكون الرغبة في الامتلاك هي المهيمنة، ولكنهم شديدو الندرة اليوم. وهكذا فهذا الأمر طبيعي تماماً؛ والأطفال متعوّدون أن يسلّموا بصحة ذلك لأن المجتمع بأسره يقول إنه طبيعي. ويأتي الإجماع من الكتاب المقدس فما بعده: إذ يقول الكتاب المقدس إن الابن العاصي يجب أن يُرجَم بالحجارة ويُقتل. حسناً، نحن لا نقوم بذلك في هذه الأيام، ولكن ما حدث للابن العاصي في القرن التاسع عشر كان شديد القوة.‏
وبودي القول إنكم إن حللتم المحبة الوالدية وجدتم أنها على العموم مَلَكة إنسانية، أمر يتيسّر فهمه بسهولة، أمر يستطيع به المرء أن يشعر بالتقمص العاطفي وحتى بالحزن والحنوّ، إذا أردتم. ولكنه مع ذلك يكون في أساسه عند معظم الناس تملكياً غير خبيث في أحسن الأحوال وفي العدد الهائل من الناس تملّكياً خبيثاً، أي أنهم يضربون ويؤذون، ويؤذون بشتى الطرق التي لا يكون الناس مدركين بها حتى أنهم يؤذون، فيكون إيذاؤهم للإحساس بالكرامة: فيؤذون الشعور بعزة النفس، ويجعلون الطفل الذي هو بالغ الحساسية وشديدة الذكاء نفسه يعتقد برغم ذلك أنه شخص مغفّل، وأنه غبي، ولا يفهم. وحتى معظم جيدي الطوية من الناس يفعلون ذلك، فيُظهرون أطفالهم كأنهم مهرّجون أمام الآخرين. وكل ما هو تحت الشمس يؤدي دوره ليجعل الطفل يشعر بالدونية، ويضغط حالة الثقة بالنفس، والكرامة، والحرية في الطفل.‏
والمؤكّد أن اقتداء فرويد هذا بالطبقة المهيمنة، بالمؤسسة، قد قام حقاً بقدر كبير من التحريف لنظريته حول الأطفال، وقام بقدر كبير من التحريف لعلاجه، لأن المحلل قد جعل نفسه المدافع عن الآباء. ولكنني أعتقد أن على المحلل أن يكون المتّهِم للآباء. وينبغي أن تكون للمحلل رؤية موضوعية. ولكنه إذا كان المدافع عن الآباء لأن ذلك هو روح المؤسسة، فإنه لن يفعل خيراً كثيراً للمريض. ولأكون أشدّ دقة عليّ أن أمضي خطوة أخرى، مضيفاً أن على المرء ألا يرى مجرد النظام العائلي الكلي بل النظام الاجتماعي الكلي، لأن الأسرة ليست إلا جزءاً منه، مجرد نموذج.‏
وعندما أقول إن الطفل بالنسبة إلى فرويد آثم لا أعني أن الطفل بريء على الدوام ولا أعني أن الآباء آثمون على الدوام؛ وأعتقد في كل حالة أن الأمر يتعلق بدراسة شاملة لمعرفة إلى أي مدى يسهم الطفل كذلك في رد فعل الأبوين. فمثلاً، إن بعض الآباء يكونون مفرطي الحساسية تماماً نحو نمط معين من الأطفال. ولنقل تُرزق الأم الحسّاسة جداً، أو الشخص الخجول قليلاً، بصبي يكون عدوانياً، فظاً قليلاً- ويمكنكم أن تروا ذلك أيضاً في سن ثمانية الأسابيع: إنه مزاجه الذي يولد معه. وهي لا تستطيع أن تحتمله، لا تستطيع أبداً، ولا تستطيع أن تحتمل فيما بعد شخصاً لـه خصائصه. حسناً، إن ذلك ليس بالغ السوء. لأنكم قد تقولون إنه ليس الملوم، لأن يولد على النحو الذي عليه وأمه ليست الملومة كذلك، لأنها لا تستطيع أن تساعده.‏
وثمت أطفال يولدون مُريعين، وثمة بعض المتعجرفين كثيراً. وكان فرويد صبياً من هذا القبيل؛ كان متعجرفاً نحو أبيه إلى حد مريع. وكان يبلل فراشه ويقول لأبيه: "عندما أبلغ مبلغ الرجال سأشتري لك أجمل فراش في المدينة". ولم يخطر بباله أن يأسف ويعتذر، كما من شأن جل الأطفال أن يفعلوا، ولكنه كان شديد الثقة بنفسه. حسناً، إن هذا النوع من العجرفة يجعل الولد لا يطاق عند بعض الآباء. وبكلمات أخرى، إن الطفل يُسهم بوجوده في ذلك الحين في بعض رد فعل الوالدين، ومن الوهم أن يحسب المرء أنه طفله، ولذلك فمن المرغوب فيه أن يولد بوصفه طفلاً موافقاً للمرء. وبرغم كل شيء، فإن يانصيب الوحدات الوراثية (الجينات) هو الذي يؤدي دوره هنا، والمرء لا يربح في اليانصيب دائماً، وعلاوة على ذلك، يقوم الطفل في السياق بأمور كثيرة تتجاوز ذلك، ويمكن للمرء أن يجعل الآباء مسؤولين عنها.‏
صلة تجارب الطفولة بالعملية العلاجية‏
إنني مقتنع أنه تحدث في السنوات الخمس الأولى أشياء كثيرة هي حقاً شديدة الأهمية في نشوء الشخص، ولكنني أعتقد أنه تحدث بعدئذ أشياء كثيرة أخرى تساويها أهمية ويمكن أن تغيّر الأشياء.‏
وحقاً إن الإجبار على التكرار عند فرويد – وهو أن الأشياء الأساسية تحدث في السنوات الخمس الأولى ثم تتكرر الأشياء فقط- هو بالنسبة إليّ مفهوم شديد الميكانيكية. وأعتقد أنه لا شيء في الحياة يتكرر، ووحدها الأشياء الميكانيكية يمكن أن تتكرر، وفي كل أنواع الأشياء التي تحدث، تتغير الأشياء، على الرغم من أنني أود أن أضع- إذا كنت أستطيع أن أقول ذلك بين قوسين- قدراً كبيراً من التأكيد على العامل التكويني. وقد اعتقد فرويد نظرياً، فقد قال بذلك، ولكنني أعتقد أن معظم المحللين يعتقدون معه، ولا سيما عموم المحللين، أن ما يصبحه الشخص هو نتيجة ما فعله والداه له. ثم يشرعون في هذا النوع من القصة البكائية التي كثيراً ما تصادفونها في التحليل: "أبي لم يكن يحبني، أمي لم تكن تحبني، جدي لم يكن يحبني ولذلك أنا شخص ذميم". حسناً، إن ذلك شديد السهولة، فأنت تجعل الخلل كله في الناس الذين حولك.‏
ويمكن أن تبرهنوا في نشأة كل طفل على أن ثمة عناصر معينة في الطفولة كانت قد كمنت من أجل زمن لاحق؛ إلا أنها لحقيقة واقعة كذلك أن تلك الأحداث اللاحقة إما أن تزيد هذه العناصر وإما أن تقويها وإما أن تضعفها. ولهذا لا تستطيعون أن تقولوا إن الأحداث اللاحقة لا تشارك. وأنا أنظر إلى هذه المشكلة بتلك الطريقة وهي أن الأحداث الباكرة لا تحدّد ا لشخص بل تستميله. وهذا يعني أنه لا شيء مما حدث قديماً يحدد الشخص بالضرورة، كما أعتقد، بل يستميله، وكلما طال استمراره في هذا الاتجاه اشتد ميله، حتى لكم أن تقولوا إنه لا يمكن إلا بمعجزة أن يحدث بعدُ تغيّر.‏
إن هدف التحليل النفسي هو بلوغ التبصّر للعمليات اللا شعورية عند المريض في الوقت الراهن. وليس التحليل النفسي بحثاً تاريخياً من حيث هو هو. ونحن نريد أن نعرف، أن نسلّط الشعاع السيني على ما يجري الآن في المريض لا شعورياً، أي خلف ظهره. وذلكم هدفنا. ولكن في كثير من الأحيان لا يفهم المريض ذلك إلا إذا كان يستطيع أن يعيش تجربة إعادة تجربة ما، إعادة بعض تجارب طفولته، لأنها تضفي نكهة أو خصوصية على أمر هو الآن غير مدرك له. ويحدث ذلك أحياناً في التحويل، وأحياناً في تذكّر شيء عاش تجربته وهو طفل أو حتى عاش تجربته في جلستنا- ونحن مفعمون بهذه التجارب. وأخيراً يبرز في حلم.‏
ويحدث أن يبرز شيء ما في حلم حدث قبل ثلاثين سنة، عندما كان المريض في السابعة عشرة من عمره. ولكن هدفي ليس البحث التاريخي. إن هدفي هو الإدراك الأوضح لما هو لا شعوره الآن، ولكن من أجل الوصول إلى ذلك الهدف في كثير من الأحيان، وربما في معظم الوقت، من الضروري أن أرى ما خَبرَه المريض عندما كان طفلاً، وعندما كان مراهقاً. وفي واقع الأمر، عندما أحلل نفسي، وهو ما أمارسه يومياً، أحاول عامداً أن أشعر بما شعرت به حيال هذا الأمر وسواه عندما كنت في الخامسة، وعندما كنت في الخامسة عشرة، أحاول أن أعرف أي شعور من هذه المشاعر يوجد فيّ. أحاول أن أحافظ باستمرار على صلة مفتوحة بطفولتي، وأن أبقيها حية، لأنها تساعدني على أن أتعرّف وأدرك الأمور التي تجري الآن فيّ وأنا غير مدرك لها. ليس الهدف هو البحث التاريخي.‏
وقد كانت فكرة فرويد، إذا عبّرنا عنها باختصار شديد، هي أنك إذا أوصلت إلى الوعي، لا إلى مجرد الوعي العقلي بل في مآل الأمر إلى الوعي العاطفي، تجارب الطفولة شديدة الأهمية – تجارب الطفولة المولِّدة للمرض- فإن العَرَض المَرضي يزول بهذه العملية. ماذا صار من ذلك؟ إنه بقدر كبير من التحليل النفسي وفي رأي العموم [...] هو ما يمكن أن تدعوه التفسير الفرويدي النشوئي. وكنت قد سمعت قصصاً كثيرة جداً عن الناس الذين يسألون المرء: "إذن، ماذا أظهر تحليلك؟" وعندئذ تكون الصيغة، ويكون المنطق: "أنا، هذا، أو هذا، أو هذا، أو وجدت هذا العَرَض أو ذلك لأن..." أي أنه تفسير ذو طبيعة نشوئية تاريخية. وهذا يعني أنه ليست لـه قيمة شفائية أياً كانت. وإذا عرفتَ لماذا حدث شيء ما، فإن ذلك ذاته لا يغيّر أي شيء.‏
وأريد أن ألفت انتباهكم إلى أمر واحد، ربما لم يكن من السهل كلياً فهمه، هو الاختلاف بين خبرة شيء ما فيّ، كان مكبوتاً وفجأة برز إلى إدراكي، ومن جهة أخرى إنشاء تلك التأويلات التاريخية لأنه قد حدث هذا أو ذلك. ولأنه نادر جداً أن يعثر المرء على التجارب الأصلية وأن يتذكرها بالمعنى الحقيقي، كثيراً ما يكون المرء راضياً بهذا التأويل: لا بد أنها حدثت، ومن المحتمل أنها حدثت، وبما أنها حدثت، فأنت هذا، وذلك، وغيره. ويمكن للمرء أن يدعو هذه عديمة الجدوى. "إذا غرق شخص ما وكان يعرف قوانين الجاذبية، فإنه يغرق كمن لا يعرفها تماماً [...]"‏
ولا تكون تجربة الطفولة ذات أهمية، إلا من حيث هي إعادة تجربة، يتم تذكّرها. ومن ناحية ثانية، تساعد معرفة الطفولة على الفهم الأيسر لما يجري الآن لأن المرء يستطيع، على أسس نظرية، أن ينشئ بعض الافتراضات حول أوضاع الطفولة هذه وما يمكن أن نتوقّعه.‏
وما يهم حقاً ليس المقاربة النشوئية التاريخية، بل ما أدعوه مقاربة الشعاع السيني، وما يهم هو القوى التي تدفعني أو تحرّضني أو تحرّض شخصاً سواي في هذه اللحظة عينها، لأرى ما لا أستطيع أن أراه في ظل ظروف الرؤية العادية. ولو سلطتَ، مثلاً، شعاعاً سينياً على الصدر، لرأيتَ كذلك مرض السل الرئوي الذي قد أصاب الشخص قبل عشرين سنة؛ إنه يُظهر آثار النسيج. ولكنك لست مهتماً بما أصابه قبل عشرين سنة، أنت مهتم بأن ترى ما يجري الآن في رئتي هذا الشخص. أهناك عملية فعالة يمكن أن تُرى بالشعاع السيني؟ وإذا أردت أن تفهم شيئاً ما بالتحليل أو بنفسك من دون استفادة من التحليل، فالمسألة على الدوام هي أن تسأل نفسك أولاً ماذا يجري الآن لا شعورياً، ماذا يمكن أن أخمّن، بماذا أستطيع أن أحسّ من بواعثي اللا شعورية التي تحدّدني، وليس بما جرى أستطيع أن أفسّر ما يجري الآن.‏
الممارسة العلاجية وصلتها بالتحليل النفسي‏
إن النظرية الفرويدية، كما تعرفون، نظرية غريزوية(*) في أساسها؛ وذلك يعني أن كل شيء قائم على الغريزة، ثم ولا ريب كيف جارت البيئة على الغرائز من خلال الطبع. ولهذا يكاد يمكن القول نظرياً إن التحليل النفسي يسير في خط الغريزوية instinctivism وعملياً فإن المحللين النفسيين – وكذلك الفرويديين- يمكن أن تقولوا إنهم بيئويون حقاً. وهم في الحقيقة يتبعون تقريباً مبدأ بسيطاً: إن كل طفل هو ما جعله الأبوان. إن التأثير الكامل لبيئتهما هو ما يحدد حقاً مصير الشخص وليس ما يدعوه فرويد "العوامل التكوينية". وكان فرويد نفسه أشدّ حذراً من هؤلاء بكثير. فقد قال إن العوامل التكوينية- أي العوامل التي نولد بها، عواملنا الوراثية- والعوامل البيئية سلسلة متصلة يختلف وزن كل جانب عن الآخر من حالة إلى حالة. فتجد في أشخاص أن العامل التكويني يكون أقوى بكثير، ويكون العامل البيئي أقوى في غيرهم، ولكنها سلسلة متصلة. ففي أحد الطرفين تود أن تكون لك البنية التكوينية، وفي الطرف الآخر تود أن تكون لك البيئة.‏
ولدى ممارسة التحليل النفسي – وأنا أفكر الآن في عموم المحللين الأمريكيين- توجد معادلة تحذف العوامل التكوينية، بحيث يكون كل شيء نتيجة البيئة. وهكذا، ولا ريب، يقال كذلك إن الآباء مسؤولون عن كل ما حدث. والآن فإن ذلك يكون على نحو ما، ولكن على نحو آخر فهم غير مسؤولين عن ذلك، لأن النتيجة اليوم هي أن الأمهات اللواتي حضرن إلى محاضرات في التحليل النفسي خائفات من أن يقبّلن أطفالهن أو أبناءهن لأنهن بذلك يُحدثن "عقدة أوديب"، وهن خائفات من أن يكون لهن في أي وقت رأي راسخ لأنهن بذلك يكنّ تسلّطيات ويسبّبن العصاب.‏
ومن جهة أخرى، فالناس الذين يحلَّلون يعيشون في الشعور السعيد بأنهم غير مسؤولين عن أي شيء، لأنهم ما جعلهم آباؤهم يكونونه تماماً – وهو أمر بالغ السوء- وليس في وسعهم أن يفعلوا شيئاً حيال ذلك سوى الدخول في التحليل النفسي، وعندئذ تتكلمون كثيراً عما فعله لكم آباؤكم، ولم يجعلكم تتغيرون كذلك، بالضرورة.‏
وفي الواقع، هناك تفاعل متواصل بين الآباء وتكوين الشخص وكيفية استجابة الشخص لما يفعله الآباء. إن الطفل في الخامسة، أو الرابعة، قد صارت لـه ردود فعله، ولذلك لا يمكن للمرء أن يقول ببساطة: "أنا على هذا النحو لأن أمي كانت على هذا النحو". وحتماً كانت أمي أو كان أبي أو كانت بيئتي هي المؤثرات المحدِّدة الأولى، ولكن برغم ذلك على المرء أن يسأل نفسه، ماذا فعلتُ، لئلا أذعن لهذه المؤثرات؟ هل كنت بكاملي قطعة شمع، هل كنت بكاملي قطعة ورق خالية كتب أبواي عليّ نصهما؟ ألم تكن لديّ وأنا طفل إمكانية ما للحكم بصورة مختلفة؟ هل كنت من دون أية إرادة؟ وهل تحددني الظروف كلياً؟‏
وفي الواقع، ففي هذه الناحية فإن المفهوم الشعبي للتحليل النفسي متماثل تقريباً مع "السكنرية" Skinnerianism. وذلك يعادل القول إنهما مشروطان على ذلك النحو وذلك هو السبب في أنهما على ذلك النحو. ووحده سكنر Skinner لم يركب الصعاب للعثور على ما يوجد في الصندوق الأسود، ما يوجد في داخل هذا الشخص الذي يوصل العامل الشرطي إلى النتيجة، إلى سلوك الشخص. فهو غير مهتم بذلك؛ وغير مهتم بأمور كثيرة مهما كانت إذا لم تكن من التعامل البارع الخالص عند الناس. ولكنك إذا أضفت هذا الرأي النظري، من المدرسة الفرويدية، فهو يعادل القول: "حسناً، نحن مشروطون على ذلك النحو، ويمكنكم إذن وصف العملية التحليلية ذات وجهة النظر السكنرية بأنها محاولة عظيمة لنزع "الشرطية". لقد قالت الأم: "أحبك إذا لم تتركني". ويقول المحلل "أنت مريض جيد إذا تركتَها". ولو استمر ذلك بضع سنوات، لاستقبلت مجموعة جديدة من التشريط يمكن في آخر الأمر أن تؤدي إلى أن يترك المريض أمه ويلتصق بالمحلل، ثم يتم لك ما يسمى التحويل الممطوط، وإذا حدث أخيراً أنه لم تكن هناك تَعِلّة أخرى للاستمرار في التحليل، فإنك تلتصق بأحد الأشخاص الآخرين.‏
يتزوج أناس كثيرون، يذهبون من أمهاتهم إلى زوجاتهم، والزوجات يصبحن بديلاً عن الأمهات، أو يختار أحدهم شخصية أم أخرى أو شخصية سلطة أخرى، وذلك ما يجعل السياسة تعمل، فهذه الولاءات التي تُخلَق، يحتاج الناس فيها إلى الشخص الذي يعتمدون عليه. والشيء الوحيد الذي لا يقومون به هو أن يجعلوا أنفسهم مستقلين، ولكن لشد ما يغيّر التابعين. تلكم مشكلة كبيرة، ولكن ليست في العلاج الفرويدي فحسب؛ إنها مشكلة تصادفونها في كل العلاج التحليلي.‏
إن هذا النوع من تأكيد العوامل الشرطية الذي جعل الناس على النحو الذي هم عليه يُفضي إلى إهمال المسائل الحقيقية والمهمة أكثر فأكثر. وهذه هي المسائل: ماذا بوسع الناس أن يفعلوا لتخليص أنفسهم؟ كيف بوسعهم أن يتصرفوا بصورة مختلفة؟ كيف بوسعهم أن يستفيدوا من هامش الحرية الذي يملكه كل فرد؟ ولا ريب أن السؤال الحاسم هو ماذا بوسعهم أن يفعلوا الآن؟ وهذا السؤال لا يعتمد على العمر. وكانت من أقدم مرضاي امرأة في السبعين غيّرت حقاً كل حياتها نتيجة التحليل. ولكنها كانت شديدة الحيوية؛ كانت أشد حيوية من معظم الناس وهم في العشرين.‏
وكان لفرويد مفهوم كانت فيه على الأقل العوامل التكوينية – أي العوامل الكائنة في الشخص- تؤدي دوراً. واليوم قد انحدر العدد الكبير من المحللين إلى العلاج الشرطي الخالص – وفي الواقع، ليس على المستوى النظري – ومن دون تأكيد لمسؤولية الشخص صاحب العلاقة. والسؤال: "لماذا أنا على النحو الذي فيه؟" يكاد يكون صيغة معظم العلاج النفسي، على حين أنني أهدف إلى أن أرى: "من أنا؟" وليس "لماذا أنا على ما أنا عليه؟" وطريقتي في مساءلة أناي تستدعي أن يسلّط المرء على نفسه شعاعاً سينياً، لأنك إذا لم تعرف لماذا أنت على ما أنت عليه، لن تعرف من أنت.‏
إسهام هاري ستاك سوليفان في المفهوم التحليلي النفسي للإنسان‏
انطلق سوليفان في عمله بصورة بالغة الإثارة للاهتمام وشديدة الإقناع. كان يعمل في مشفى القديسة إليزابث في واشنطن وطلب السماح لـه بإجراء اختبار. أراد أن يكون لـه قسم لمرضاه، وفي هذا القسم – وكان ذلك شرطاً- لا يود أن تكون لديه إلا الممرضات المنتقيات والمتعلمات اللواتي من دأبهن ألا يتصرفن إلا بطريقة إنسانية نحو المرضى، وفي ذلك الحين لم يكن هناك علاج نفسي، ولا عقاقير حتماً، ولم يكن يفعل شيئاً مع المرضى سوى إظهار شخصيته، التي فيها احترام هائل للمرضى الذُّهانيين، وللسلوك المختلف. وأظهرت نسبة الشفاءات العفوية تبدّلاً ملحوظاً. فهؤلاء المرضى الذين لا تساء معاملتهم، ولا يُذَلّون، ويعامَلون بوصفهم بشراً، كانت النتيجة أنهم تعافوا، وهذه بيّنة كافية على أن الذُّهان ليس مجرد واقعة فيزيولوجية عضوية. فالتغيّر السيكولوجي في هذا النظام يمكن أن يُحدِث شفاء مريض من شأنه، في مشفى للدولة أن تسوء حاله ويُمسي ذُهانياً مزمناً في ذلك الوقت.‏
وتكمن أهمية سوليفان نظرياً في إدراكه أن المهم ليس اللبيدو, أو الغريزة الجنسية، بل العلاقة الشخصية بين شخص وآخر – أي ما سمّاه "العلاقات الشخصية المتبادلة" interpersonal relations. وبينما كان فرويد يعتقد أن محور المشكلة هو انجذاب الطفل الجنسي، أي ما يُسمى "عقدة أوديب"، لم يعتقد سوليفان وجماعته أن هذه هي المشكلة على الإطلاق؛ وهي في الواقع ليست مشكلة. فالمشكلة هي أن العنصر المرَضي، العنصر الغريب في العلاقات الشخصية في الأسرة هو الذي يمكن أن يُحدِث الفُصام. وثمت عدد من الدراسات البعيدة عن سوليفان، الدراسات البارعة التي تظهر الأسرة الموَلّدة للفصام كما هي حقاً، وقد وجد المرء – ولا سيما لانغ، ولكن الآخرين وجدوا أيضاً- أن الأسرة الموَلّدة للفُصام، الأسرة التي تُنتج الفصاميين، ليست أسرة ذميمة بصورة خاصة. إنها ليست أسرة تساء فيها معاملة الطفل على وجه الخصوص. إنها أسرة السأم المطلق، والفراغ المطلق، والجمود، وليست فيها علاقة لأي شخص بالآخر، وتكاد تميت الطفل جوعاً في حاجته إلى الاتصال الشخصي.‏
ويعرف كل امرئ اليوم وتؤيده التجارب الحيوانية أن الدليل يشير إلى أن الطفل إذا لم يحظَ باتصال طبيعي باكر بالأم أو بالبديل عن الأم، فإن ذلك يخلق ضرراً كبيراً لنشأته اللاحقة. إنها لحاجة حيوية عند الطفل.‏
ويعرف كل امرئ ذلك ويقبله، ولكن ما ينساه الكثيرون من الناس هو أن الحاجة إلى أن يكون لديهم هذا النوع من الإثارة الشخصية المتبادلة تضاهي الحاجة الأصلية إلى الاتصال الجسدي بالأم وتدوم مدة أطول بكثير. فإذا لم تتحقق، ولم يمت الطفل كالأطفال الذين يصفهم رينيه سبيتس René Spitz –فهي لا تُحدِث ذلك التأثير العميق- ولكن إذا كانت الحالة قاسية على نحو خاص، فإن الطفل يصبح شديد الهشاشة، شديد الفُصامية، شديد الانعزال بحيث أنه عندما يكون ثمت قدر معين من التوتّر يحطمه ذلك فيغدو فُصامياً بائناً.‏
وكان سوليفان أول معالج نفسي حاول أن يخلق نظرية في الفُصام تعتقد أساساً أن الفُصام ليس في ماهيته مرضاً عضوياً بل هو في أساسه نتيجة عملية سيكولوجية. ولا ريب أن ذلك كان تحولاً من التحولات الكبرى في النظرية الفرويدية، لأن فرويد اعتقد أن الذُّهاني لا تمكن مساعدته، وأن الذُّهاني لا يمكن أن يحلَّل. وبرأيه أنه لنرجسيته الزائدة لا يدخل في علاقة تحوّل مع المحلل. ولا أزال أعتقد أن المرء يمكن أن يعرّف الذُّهاني بأنه شخص ذو درجة متطرفة جداً من النرجسية، أي ليس حقيقياً بالنسبة إليه إلا ما يوجد في داخله –الذي لا ينتمي إلا إلى أفكاره، إلى شخصيته- ولا شيء ينتمي إلى العالم الخارجي يكون حقيقياً عنده. ولكن المريض الفُصامي هو في الوقت نفسه كثيراً ما يكون شخصاً حساساً للغاية وقادراً في الواقع على الاستجابة للناس. ومهما يكن، فيجب على الناس أن يكونوا أشد حساسية من الشخص العادي، وعندئذ سيكون للفصامي ردة فعل، سوف يستجيب. وفي أمثلة كثيرة، يعرف حتى أشد المرضى بالإغماء التخشّبي ماذا يجري ويستجيبون بأسلوبهم الخاص، ويمكن أن يقولوا بعدئذ، متى كانوا خارج الحالة، وماذا خَبَروا؛ وكيف فهموا ما كان يجري.‏
إن سوليفان وهذا التراث الكلي هو وجه جديد بالغ الأهمية من أوجه التحليل النفسي، أعطى أولَ مرة للشخص الذُّهاني كرامة الإنسان مستوفي الصفات. وبعد كل شيء، فإنه لم يحرر الإنسانُ المرضى الذُّهانيين من أغلالهم إلا في إبان الثورة الفرنسية، وإذا أردتم أن تروا بعض مشافي الدولة حتى في هذه الأيام، فإنها ليست مكبّلة بالأغلال، ولكنها ليست بعدُ أفضل بكثير. إن الذُّهاني لا يزال يُنظر إليه- وأود أن أقول كذلك من جانب معظم الأطباء النفسيين التقليديين، بوصفه مخبولاً، بوصفه شخصاً مختلفاً كلياً، في الخارج، ولدى القلة من الأطباء النفسيين القدرة على الشعور بأن شيئاً من الفُصامي موجود في كل فرد منا. ومن المؤكد أن شيئاً من الشخص المصاب بالبارانويا (جنون العظمة والاضطهاد) موجود في أيٍّ منا. فنحن كل هؤلاء من بعض النواحي- والبارانويا حالة هي مسألة درجة فقط. فحتى حد معين ندعوها طبيعية، ولكننا إذا لم نستطع أن نحتملها دعوناها مرضاً. وهكذا فما من حالة من هذه الحالات الذُّهانية شديدة الاختلاف حقاً، وتخلق مثل هذه الفجوة العميقة بين البشر. والمريض الذُّهاني ليس على غير ما هو معهود في الإنسان، ومعدوماً من الصفات الإنسانية، ومختلفاً عمن يسمى المريض العادي.‏
أمراض عصرنا بوصفها تحدياً للتحليل النفسي‏
يُفهم من التحليل النفسي تقليدياً أنه عملية علاجية للناس الذين يكونون مرضى. فإذا كان لديَّ ما يرغمني على الشك في كل شيء، الشك الاستحواذي، وإذا كانت لديّ ذراع مشلولة عن منشأ نفسي، فإن ذلك عَرَض مَرَضي وطيد. وليس التحليل النفسي هو المنهج الوحيد الذي يمكن به للمرء أن يشفى من الأعراض المرَضية. وقد كنتُ في لورد(*) ورأيت بأم عيني كثيراً من الناس الذين تمّ شفاؤهم من الشلل وكل أنواع الأعراض المرَضية الشديدة بإيمانهم بلورد. لقد شفي الناس حقاً، من دون أدنى ريب. والناس تشفيهم اليوم المناهج الكثيرة المعلنة؛ وهناك كل أنواع الأسماء، وإذا كانت المسألة مسألة شفاء، فإن الكثير من هذه المناهج مناهج جيدة.‏
وبوسعكم شفاء الناس بالترويع. ففي الحرب العالمية الأولى ابتكر طبيب ألماني طريقة لشفاء الجنود المصابين بصعقة الحرب من جراء القتال والذعر؛ وكان العلاج الشافي الذي استخدمه هو وضع أجسامهم تحت تيار كهربائي قوي، يؤلم كما يبدو إيلاماً عميقاً جداً. وكان اسمه الدكتور كاوفمان Dr. Kaufmann، وكانت طريقته هي المعالجة الكاوفمانية. وكانت معالجة طبية، وكان من شأنها أن تشفي. وكانت تعذيباً صرفاً، وتبيّن أن الخوف من هذا التعذيب كان أشدّ من الخوف والذعر من الوجود في الخنادق مرة أخرى. وهكذا، وبهذا النسق الترويعي، شُفي الناس من العَرَض المرَضي. ولا ريب أن مسألة ماذا كان يجري للشخص حين يكون لديه رُعب يطرده رعب أكبر لم يكن لها عند الدكتور كاوفمان وعند الجيش عموماً أهمية خاصة.‏
إلا أن أعراضاً مَرَضية كثيرة تشفى وربما حصرياً بالتحليل النفسي، وأعني بها بعض أحوال الشكوك الاستحواذية، وكل أنواع الأعراض المرَضية الاستحواذية، وبعض الأعراض المرَضية الهستيرية. وفي بعض الأحيان يكون ذلك سهلاً للغاية. ودعوني أقدّم مثالاً على حالة شديدة السهولة، على معالجة تحليلية جدّ بسيطة لم يستغرق فيها الشفاء من العَرَض إلا بضع ساعات. أذكر امرأة جاءت إليّ ولديها شكوى، ولديها عَرَض مَرَضي هو أنها كلما غادرت منزلها، كانت لديها فكرة استحواذية أنها قد تركت الغاز مشتعلاً أو أنه لسبب آخر سيشبّ حريق؛ وأينما كانت كان لديها ما يرغمها على العودة إلى منزلها لترى أنه ليس فيه حريق. قد يبدو ذلك بالفعل أمراً خفيفاً عندما يتحدث عنه المرء، ولكنه كان مدمّراً تماماً لكل حياتها لأنها عملياً لم تكن تستطيع الخروج. فكانت تضطر أن تُهرع عائدة، وكان هذا العَرَض لا يُقهر. ثم تكلمت عن ماضيها. وذكرت أنه قد أُجريت لها عملية لاستئصال السرطان قبل زهاء أربع أو خمس سنوات وقد أخبرها الجراح الذي لم يكن مرهف الشعور أنه ولو أن الخطر قد زال في الوقت الحاضر ولا ريب فقد يكون ثمت انبثاث للخلايا السرطانية فيمكن بذلك للسرطان أن ينتشر انتشار النار. وكان ذلك، حتماً، توقعاً مخيفاً جداً – وكان هذا شأنه لكل من يقال لـه ذلك- وكانت مذعورة للغاية من انتشار المرض. ونجحتْ في ترجمة الخوف من أن ينتشر المرض إلى الخوف من أن تنتشر النار. وهكذا لم تكن خائفة من السرطان، بل كانت خائفة من النار، وبينما كان ذلك مصدّعاً، فإن العرَض المرَضي نفسه كان شفاء من خوف أكبر، هو الخوف من الإصابة بالسرطان.‏
وصادف في تلك الآونة – وكما قلت فقد كانت بعد زهاء خمس سنوات من عمليتها- أن فرص معاودة الانبثاث كانت ضئيلة نسبياً وهكذا فقدت في تلك اللحظة خوفها من النار من دون أن تكون خائفة آنئذ من السرطان. ولكن إذا فكر المرء أن ذلك حدث قبل ثلاث سنوات، فمن المشكوك فيه أنه هل يحسن المرء صنعاً إذا جعلها تعرف خوفها من النار، لأنها في ذلك الحين، لو أصبحت شاعرة بذلك، لانتابها خوفها من السرطان مجدَّداً وكان من شأن ذلك أن يكون أشدّ إيلاماً وإقلاقاً من خوفها من النار بكثير. وهنا تجدون عَرَضاً مَرَضياً شديد البساطة، يكاد يكون أبسط عَرَض يمكن أن تصادفوه، وهو يزول على الفور تقريباً عندما يترجَم ويُربَط بما يخاف منه الإنسان حقاً. والآن فإن جلّ الحالات معقدة، ولكنني أود أن أقول إنه عموماً في الأحوال التي يُستخدم فيها التحليل لعلاج الأعراض المرَضية هذا يكون التحليل كافياً.‏
وفي زمن فرويد كان معظم الناس الذين يأتون إلى الطبيب النفسي يعانون من أعراض كهذه، ولا سيما من الأعراض الهستيرية، التي هي الآن شديدة الندرة. وإنه لتبدّل، يمكن أن تروه الآن، تبدّل في أسلوب العصاب يلازم تبدّل النماذج الثقافية. والهستيريا اندلاع شديد للإحساس وإذا رأيت شخصاً هستيرياً بكل هذا الاندلاع للانفعال يصوّت ويصيح وما إلى ذلك، فقد تخال أنك في زمن خطيب القرن الماضي، أو زمن الرسائل الغرامية وهلم جرا – كل هذه الأمور التي إذا رأيناها اليوم في الأفلام بدت واضحة الغرابة. وذلك لأنه لدينا أسلوب مختلف كل الاختلاف. إن لدينا أسلوب الأمر الواقع، ونحن لا نظهر الكثير من الأحاسيس، واليوم فإن الأعراض الفُصامية، أعراض فقدان الاتصال بالناس الآخرين وبنتائجهم، هي الأعراض المتكررة.‏
وفي زمن فرويد كان الناس يعانون في الدرجة الأولى من أعراض –لا الهستيريا وحدها ولا شك، بل كذلك من الأعراض الإرغامية. وفي ذلك الحين كان الناس الذين لديهم مرض ذو عَرَض حقيقي جسيم، ويمكن أن يثبتوه بوجود الأعراض، يذهبون إلى الطبيب النفسي. وأود أن أقول اليوم إن معظم الذين يذهبون إلى المحلل النفسي هم أناس يعانون مما تعوّد فرويد أن يدعوه "داء القرن" malaise du siecle، القلق الذي هو الصفة المميزة لقرننا. لا أعراض على الإطلاق، بل إحساس بعدم السعادة، والغربة، ولا حتى أرَق، ولكن الحياة لا معنى لها، ولا تلذّذ بالحياة، بل انسياق، بل إحساس بتوعّك غامض. وهم يتوقعون أن يبدّل التحليل النفسي ذلك. ويدعو المرء ذلك تحليل الطبع، تحليل الطبع كلياً، وليس بالأحرى تحليل العَرَض، لأنك يمكن أن تقول فعلاً إنه يوجد أناس يعانون من هذا التوعّك، الذي لا يمكن للمرء أن يعرّفه بالكلمات على الوجه الصحيح تماماً ولكنه يحسّ به بمنتهى الدقة من تفحّص نفسه وتفحّص نفوس الآخرين.‏
وقد أطلق المرء على هذا النمط من التحليل النفسي تحليل الطبع الذي هو إلى حد ما الاسم أو الكلمة الأكثر علمية والمناسبة لـ الناس الذين يعانون من أنفسهم. ولا شيء خطأ. إنهم يملكون كل شيء ولكنهم يعانون من أنفسهم. وهم لا يعرفون ماذا يفعلون بأنفسهم، وهم يعانون من ذلك، وهو عبء، وهو مشكلة لا يستطيعون حلها. إنها أحجية؛ وهم يستطيعون حل أحجية الكلمات المتقاطعة ولكنهم لا يستطيعون حل الأحجية التي تقدمها الحياة إلى كل فرد.‏
والرأي عندي أن التحليل النفسي بالمعنى الكلاسيكي ليس كافياً لهذا النمط من الداء. والمطلوب هو نمط مختلف لأن هذا الداء يعادل مسألة التغيّر الجذري في الشخصية الكلية. ولا يمكن لمن يعاني من هذا الداء أن يحلَّل بنجاح من دون تغيّر جذري ومن دون تحوّل طبعه. والتغييرات الطفيفة والتحسينات الزهيدة لا تفعل أي خير. ويمكن لنظرية الأنظمة الحديثة أن توضح ذلك. وأنا أشير إلى أن مفهوم الشخصية –أو المنظومة- نظام. أي أنها ليست مجرد المجموع الكلي للأجزاء، ولكنها بنية. فإذا تبدّل جزء واحد من البنية ألمّ ذلك بكل الأجزاء الأخرى. وللبنية في ذاتها تماسك؛ وهي تميل إلى رفض التغيّرات لأن هذه البنية ذاتها تميل إلى المحافظة على ذاتها.‏
فإذا أحدث المرء في هذه البنية تغييرات طفيفة، فإنها لا تتغير كثيراً. ولتقديم مثال بسيط أقول: كانت الفكرة الشائعة هي تغيير الوضع في حي فقير ببناء دور أجود في الحي الفقير. ماذا يحدث؟ إنه بعد ثلاث أو خمس سنوات تكون الدور الجميلة الجديدة مثل دور الحي القديم تماماً. لماذا؟ لأن التربية قد ظلت نفسها، والدخل قد ظل نفسه، والصحة قد ظلت نفسها، والنماذج الثقافية قد ظلت نفسها- أي إن النظام ينمو فوق هذا التبدّل الطفيف، هذه الواحة الصغيرة، التي تندمج بعد فترة في النظام الكلي. وليس بمقدوركم تغيير الحي الفقير إلا إذا غيرتم النظام الكلي- فغيرتم في الوقت نفسه الدخل، والتربية، والصحة، ومعيشة الناس كلها. وعندئذ ستغيرون الدور كذلك. ولكنكم إذا غيرتم جزءاً واحداً فليس ذلك كافياً. وذلك لا يمكن أن يقاوم تأثير النظام الذي –إن جاز القول- يهتم ببقائه حياً. [...]‏
وبالمعنى نفسه فالفرد نظام أو بنية. وإذا حاولتم القيام بتغييرات طفيفة فإنكم سرعان ما تجدون أن هذه التغييرات ستزول بعد مدة من الزمن، ذلك أنه لم يتغير شيء في الحقيقة وأنه لن يُحدث التغيّر إلا التحوّل الأساسي جداً في نظام الشخصية. ومن شأن ذلك أن يشمل تفكيرك، وعملك، وإحساسك، وتحركك، وكل شيء. وإن خطوة واحدة متكاملة، كلية، أشد نجاعة من عشر خطوات لا تسير إلا في اتجاه واحد. وأنتم ترون الأمر نفسه في التغيّر الاجتماعي، حيث لا يُحدِث تغير واحد أثراً دائماً كذلك.‏
* غريزوية instinctivitic: مفرطة في تأكيد الغريزة. (المترجم).‏
* لورد Lourdes: بلدة في الجنوب الغربي من فرنسا زعمت فيها فتاة قروية اسمها "برناديت سوبيروس" Bernadette Soubirous سنة 1858 أنها قد حظيت برؤى مريم العذراء. وهذه البلدة هي الآن مركز رئيسي للحج. (المترجم).‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق