اخر الاخبار

السبت، 6 نوفمبر 2010

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي - الفصل السابع

الفصل السابع حول العلاقة العلاجية
العلاقة بين المحلِّل و المحلَّل‏
ليس كافياً وصف العلاقة بين المحلِّ والمحلَّل بأنها تفاعل. يوجد تفاعل، ولكن بين حارس السجن والسجين يوجد تفاعل أيضاً. وذهب سكنر Skinner في كتابه وراء الحرية والكرامة Beyond Freedom and Dignity إلى حد القول إن الإنسان المعذَّب يسيطر على المعذِّب بمقدار ما يسيطر المعذِّب عليه، لأنه بصيحات الألم يُخبر المعذِّب أية وسيلة يستخدم. وبطريقة معاكسة، يمكن للمرء أن يقول إن سنكر على حق، ولكن بمعنى بالغ السخف فقط، لأن المعذِّب من حيث الأساس يسيطر على ضحيته وثمت بالفعل بعض التفاعل، ولكنه طفيف، على قدر ما تتعلّق المسألة بمن يسيطر على من.‏
ولا أريد أن أقارن وضع الأسرة بوضع المعذِّب والمعذَّب، ولكنني أذكر هذا المثال المتطرف للشك في صحة مفهوم التفاعل. وإنه لصحيحٍ تمام الصحة أن التفاعل موجود، ولكن عليك في أي تفاعل أن تثير سؤالاً واحداً. من هو الذي في هذا التفاعل لـه القدرة على إرغام الآخر؟ أهو تفاعل المتساوين أم تفاعل غير المتساوين الذين لا يستطيعون ماهوياً أن يقاتلوا على المستوى نفسه؟ والمفهوم السوسيولوجي الأكاديمي للتفاعل ينطوي على خطر جسيم. فهو شكلاني صرف؛ أي أن التفاعل يكون حيثما تفاعل شخصان.‏
إن على المرء أن يحدد هل نوعية التفاعل هي نوعية مساواة أم نوعية سيطرة، نوعية القوة الأكبر للطرف الذي يستطيع أن يقسر الآخر على التصرف كما يريد. والتعبير الكلاسيكي عن هذه المسألة موجود في المعاهدات الدولية وكذلك في المعاهدات المدنية. فإذا استطاعت سلطة قوية جداً أن تقيم تحالفاً مع سلطة بالغة الضآلة، إن ذلك يصاغ على أساس أنه تحالف؛ أي أنه حتى الإلحاق يصاغ على أنه معاهدة المتساوين. ولكن الأمر اليقيني في هذه المعاهدات هو أن الموجود في الواقع هو أن كل الحقوق هي للسلطة الأكبر، باستثناء اللغة غالباً، ولكنها رسمياً معاهدة. والقصة القديمة نفسها نجدها في التجارة حين تقيم شركة تجارية كبيرة شراكة، عقداً بالالتحام مع الشركات الصغيرة، وقد سمّى القانون الروماني ذلك جمعية الأُسودSocietas Leonina. ويعني العقد قانونياً أن الطرفين يعقدان عقداً حراً، ولكن في الواقع تتولى الشركة الكبيرة أمر الشركة الصغيرة؛ إلا أن ذلك لا يعبَّر عنه بهذه اللغة القانونية، بل يعبَّر عن أن الطرفين بكامل حريتهما في عقد العقد حين تكون الشركة الصغيرة غير حرة على الإطلاق. وهذا التفاعل شكلي جداً؛ ومع أنه حقيقي بما فيه الكفاية، فهو شديد التجريد. والمهم في كل العلاقات الإنسانية إنما هو القدرة الحرة غير الحاسدة نسبياً للشريكين.‏
وفي هذه الناحية لديّ تجربة مختلفة عن فرويد ـ وفعلياً لديّ كلتا التجربتين لأنني تدرّبت في معهد فرويدي أُرثوذكسي في برلين، ومارست التحليل بوصفي محللاً فرويدياً أُرثوذكسياً زهاء عشر سنوات حتى تزايد سخطي على ماجرّبته. لاحظتُ أنني كنت أضجر في غضون الساعة. والاختلاف الأساسي من الممكن رؤيته فيما يلي: لقد رأى فرويد الحالة التحليلية كلها حالة مخبرية؛ هنا المريض الذي هو شيء؛ والمحلل الذي بوصفه مخبرياً يراقب ما يخرج من فم هذا الشيء. ثم يستمد كل أنواع النتائج، ويعيد إلى المريض كل ما يراه. وفي هذا الشأن أنا على الطرف المضاد للدكتور روجرز Dr. Rogers كذلك. وأعتقد أن تعبير"العلاج المتمحور حول الزبون" إنما هو كله غريب نوعاً ما لأن كل علاج يجب أن يكون متمحوراً حول الزبون. وإذا كان المحلل نرجسياً إلى حد أنه لا يستطيع أن يتمحور حول الزبون، فعليه حقاً ألا يقوم بالعمل الذي يقوم به. ولا أعتقد أن العلاج المتمحور حول الزبون، الذي هو بديهي إلى حد ما، يعني مجرد إراءة الصورة، بل العكس.‏
ماذا أعمل؟ أصغي إلى المريض ثم أقول له: "انظر، ما نفعله الآن هو التالي. أنت تنبئني بما يدور في ذهنك. ولن يكون ذلك سهلاً على الدوام؛ ففي بعض الأحيان لا تريد أن تنبئني. كل ما أطلبه إليك في تلك الحالة هو أن تقول إنه يوجد شيء لا تود أن تخبرني عنه، لأنني لا أريد أن أمارس أي ضغط عليك أكثر حتى تضطر إلى القيام بالأمور. فمن المحتمل أنه قد قيل لك في حياتك في أكثر الأحيان إن عليك القيام بأمر ما. طيب، ولكنك إذا أغفلت شيئاً ما فسأشعر. وهكذا أصغي إليك. وحينما أصغي إليك تتكوّن عندي استجابات هي استجابات أداة مدرَّبة، فأنا مدرّب على ذلك تماماً. ولذلك فما تقوله يجعلني أسمع أموراً معينة فأقول لك ما أسمعه، الذي هو مختلف عما تقوله لي أو ما تنوي أن تقوله لي تمام الاختلاف. وعندئذ تخبرني كيف تستجيب لاستجابتي. وعلى هذا النحو نتواصل. أنا أستجيب لك، وأنت تستجيب لاستجابتي، ونرى إلى أين نمضي". وأنا كثير النشاط في ذلك.‏
وأنا لا أفسّر؛ ولا حتى أستخدم كلمة التفسير. أقول ما أسمع. ولنقل إن المريض سيخبرني أنه خائف مني وأنه سينبئني عن وضع خاص، وما" أسمعه" هو أنه حسود للغاية؛ ولنقل إنه شخص سادي ـ فمي واستغلالي ويرغب في الحقيقة أن يأخذ كل شيء أملكه. فإذا سنحت لي الفرصة لرؤية ذلك من حلم، من إيماءة، من تداعيات حرة، قلت له: " الآن، اسمعني، لقد جمعت من هذا وذلك وخلافه أنك خائف حقاً مني لأنك لا تريدني أن أعرف أنك تريد أن تأتي على كل ما لديّ." وأحاول أن أجذب انتباهه إلى أمر هو غير مدرك له. والمسألة برمتّها هنا هي أن هنالك بعض المحللين، ومنهم روجرز على النحو الأشد تطرفاً، وبعض المحللين الفرويديين على النحو الأقل تطرفاً، الذين يعتقدون أن المريض يجب أن يجد نفسه. ولكنني أعتقد أن ذلك يطيل العملية بصورة هائلة؛ وهي كيفما كان الأمر طويلة وصعبة وبصورة كافية. ماذا حدث؟ توجد أشياء معينة في المريض يكبتها؛ وهو يكبتها لأسباب وجيهة؛ ولا يريد أن يدركها؛ وهو خائف من إدراكها. ولو قعدتُ ثمت وانتظرت ساعات وشهوراً وربما سنوات، حتى تُخترق هذه المقاومات، لأهدرت وقت المريض.‏
وإنني أقوم بما قام به فرويد في تفسير الحلم. وقد يكون الحلم غير ذي أذى، ومع ذلك فما يقوله فرويد هو، إن هذا الحلم يقول بالفعل إنك تريد أن تقتلني. وأقوم بذلك مع أمور أخرى أيضاً. أُخبر المريض بما أراه ثم أحلل مقاومة المريض لما أقوله. أو إذا لم تكن هناك مقاومة شديدة، فإن المريض سيشعر بذلك، ولكنني مدرك تماماً أن ذلك الاستخدام للعقل لا يساعد على شيء، وهو في الواقع يجعل كل شيء مستحيلاً. والمهم هو هل يشعر المريض بما أشير إليه.‏
لقد قال سبينوزا إن معرفة الحقيقة في ذاتها لا تبدّل شيئاً ما لم تكن معرفة عاطفية كذلك. وهذا يصدق على التحليل النفسي كله. فقد تحلِّل وتكتشف أنك تعاني من الاكتئاب لأنك حين كنت طفلاً أهملتك أمك. قد تكتشف ذلك وتعتقد به حتى يوم الحساب ولا يحُدِث لك أقلّ الخير. ولعل ذلك مبالغة، فقد يساعدك قليلاً، فتعرف السبب ولكن الأمر يكون مثل طرد الشيطان. تقول،"ذلك هو الشيطان،" وإذا فعلت ذلك سنوات كثيرة بطريقة الإيحاء، ,إذا شعر المريض في مآل الأمر أنه قد طرد الشيطان ـ والأم التي نبذته هي الشيطان ـ فقد يشعر أخيراً أنه أقل اكتئاباً إذا لم يكن الاكتئاب بالغ الخطورة. ومعرفة ما هو مكبوت تعني في الحقيقة أن تعيش تجربته الآن، لا بالفكر وحده بل أن تشعر به على أكمل وجه. إنها ليست مسألة تفسير شيء ما:" هذا لأن ـ،" بل مسألة إحساس حقاً. وفي نوع من الشعاع السيني تشعر بعمق: هنا أنا مكتئب. فإذا أحسست بذلك حقاً، فإنه يعزّز فكرة القيام بأمر ما لتوضيح الاكتئاب ويمكن أن تصل إلى المرحلة التالية التي قد تشعر فيها:"إنني عنيف حقاً وأعاقب زوجتي باكتئابي." ومن جهة أخرى، قد يكون الشخص مريضاً جداً أو يكون الاكتئاب بالغَ الشدة فلا يساعده حتى ذلك.‏
الشروط المسبَّقة للمحلل النفسي‏
لكل عمل تحليلي نفسي جانب مهم: الخصائص النفسية للمحلل. والشيء الأول في هذا المجال هو خبرته وفهمه للإنسان الآخر. ويصبح الكثيرون من المحليين محللين لأنه يشعرون أنه قد حِيْلَ كثيراً بينهم وبين الوصول إلى البشر، والاتصال بالبشر، ويشعرون أنهم في دورهم محللين محميون، وخصوصاً إذا قعدوا خلف الأريكة. ولكن ليس ذلك وحده هو السبب. فمن بالغ الأهمية أن المحلل لا يكون خائفاً من لا شعوره ولذلك لا يكون خائفاً من فتح‏
لا شعور المريض ولا يرتبك حيال ذلك.‏
وهذا يفضي إلى ما يمكن أن تسميه المقدمة القائمة على المذهب الإنساني لعملي العلاجي: لا يوجد إنسان غريب عنا. كل شيء فيّ. أنا طفل صغير، وأنا بالغ، وأنا قاتل، وأنا قديس. وأنا نرجسي،وأنا تدميري. لا يوجد شيء في المريض لا أملكه في ذاتي. ولا أستطيع أن أعرف عم يتحدث المريض وأن أعيده إلى ما يتحدث عنه حقاً إلا لأنني أستطيع أن أستجمع في داخلي تلك التجارب التي يكلمني المريض عنها، سواء أكان ذلك صراحة أم تضميناً، وإلا إذا ثارت وتردّد صداها في داخل نفسي. ثم يحدث أمر شديد الغرابة: إنه لن يكون لدى المريض الشعور بأنني أتحدث عنه أو عنها، ولا أنني أتوخى السهولة في عبارتي لـه أولها، ولكن المريض سيشعر أنني أتكلم عن أمر كلانا يشترك فيه. يقول " العهد القديم" : " أحبوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في مصر ولذلك تعرفون روح الغرباء." [تثنية الاشتراع. 10:19].‏
ولا يعرف المرء الشخص الآخر إلا بالنظر إلى أنه قد عاش التجربة نفسها. وتحليل المرءِ نفسَه لا يعني شيئاً غير الانفتاح على كلية التجربة الإنسانية التي هي جيدة ورديئة، والتي هي كل شيء. وقد سمعت مؤخراً جملة من الدكتور بوبر Dr.Buber عن أدولف أيخمان Adolf Eichmann يقول فيها إنه لم يستطع أن يشعر بتعاطف خاص معه وبرغم ذلك كان ضد المحاكمة، لأنه لم يجد في نفسه أي شيء من أيخمان. والآن أجد العبارة المستحيلة. أجد الأيخمان في نفسي، أجد كل شيء في نفسي؛ وأجد كذلك القديس في نفسي، إذا شئتم.‏
وإذا كنت أحلَّل فذلك يعني حقيقةـ لا أنني اكتشفت بعض الصدمات الطفلية، هذه الصدمة أو غيرها في الدرجة الأولى ـ بل يعني أنني جعلت نفسي منفتحاً، وأنه يوجد انفتاح على كل عدم المعقولية في ذاتي، ولهذا أستطيع أن أفهم مريضي. وليس عليّ أن أبحث عنها. فهي موجودة. ومع ذلك فالمريض يحلّلني طوال الوقت. وأفضل تحليل لي ظفرت به في أي وقت هو بوصفي محلِّلاً لا مريضاً، لأنه بالنظر إلى أنني أحاول أن أستجيب للمريض وأفهمه، وأشعر بما يجري في هذا الرجل أو هذه المرأة، يكون عليّ أن أتفحص نفسي وأن أحرك تلك الأمور غير العقلية التي يتكلم عنها المريض. وإذا كان المريض مذعوراً وكبتُّ ذعري فلن أفهم المريض. وإذا كان المريض شخصاً تلقّفياً ولم أستطع أن أحرك في نفسي ذلك الذي هو تلقّفي أو كان تلقّفياً ولكنه لا يزال موجوداً، وعلى الأقل في جرعة صغيرة، فإنني لن أفهمه.‏
إن منهج التدريب على التحليل النفسي يجب أن يتضمن دراسة التاريخ، وتاريخ الدين والأسطوريات، والرمزية، والفلسفة، أي كل المنتجات الأساسية للذهن الإنساني. وبدلاً من ذلك، فالمطلوب رسمياً اليوم هو أنه قد درس علم النفس وحاز على درجة الدكتوراه في علم النفس. حسناً، أعتقد ـ وأنا على يقين أن الكثيرين من علماء النفس يتفقون معي ـ أن ذلك تبديد للوقت. وهم‏
لا يبدّدونه إلا لأنهم مرغمون على ذلك، لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك لم ينالوا الدرجة التي تعترف بها الدولة، والتي هي الشرط لإجازتهم بأنهم معالجون نفسيون. وفي علم النفسي الأكاديمي الذي تدرسونه في الجامعات، فإنكم عملياً لا تسمعون شيئاًَ عن الناس بالمعنى الذي يتعامل به التحليل النفسي مع الناس ليفهم تحريضاتهم، ويفهم مشكلاتهم؛ وفي أحسن الأحوال تدرسون السلوكية، التي هي بتعريفها تستبعد فهم الإنسان، من حيث الأساس، لأنها في الحقيقة تؤكد كل ما علينا أن ندرسه في سلوك الإنسان وكيف يُساس هذا السلوك.‏
ولا ينبغي أن يكون المحلل ساذجاً؛ أي أنه يجب أن يعرف العالم كما هو ويجب أن يكون نقدياً تجاه ما يحدث. فكيف يمكن أن يكون المرء نقدياً حيال نفس الشخص الآخر، حيال وعيه، إذا لم يكن المرء في الوقت نفسه نقدياً حيال الوعي العام والقوى التي هي حقيقة في العالم. لا أعتقد أن بوسع المرء ذلك. ولا أعتقد أن الحقيقة قابلة للانقسام، وأن المرء يمكن أن يرى الحقيقة في الأمور الشخصية ولكنه أعمى في كل الأمور الأخرى. وإذا كان ذهن المرء متيقّظاً ومنفتحاً تماماً، فإن بوسعه بالفعل أن يرى سواء أكانت الحقيقة شخصاً أم مجتمعاً، وسواء أكانت وضعاً أم أي شيء، أم كانت فناً.‏
وعلى المرء أن يكون نقدياً وأن يرى ما هو وراء المظاهر. وأعتقد أن المرء لا يستطيع أن يفهم شخصاً، فرداً، ما لم يكن المرء نقدياً ويفهم القوى التي قولبت هذا الشخص،وجعلت هذا الشخص ما هو أو ما هي عليه. والتوقّف عند قصة الأسرة غير كافٍ تماماً. وليس كافياً كذلك للفهم الكامل للمريض. ولن يدرك كذلك من هو تماماً إلا إذا كان مدركاً الوضع الاجتماعي الكلي الذي يعيش فيه. وأعتقد أن التحليل النفسي هو ماهوياً منهج الفكر النقدي، والتفكير النقدي صعب للغاية لأنه يتنازع مع مصالح المرء. ولا أحد يُدعَم بصورة خاصة من أجل التفكير وممارسة النقد. وليس لأحد أية فائدة من ذلك، إلا أنه قد يجنيها على المدى الطويل.‏
والرأي عندي أن التحليل الاجتماعي والتحليل الشخصي لا يمكن في الحقيقة أن ينفصلا. إنهما جزء من الرؤية النقدية لواقع الحياة الإنسانية. ولعل قراءة بلزاك أكثر فائدة لفهم التحليل النفسي من قراءة الكتابة السيكولوجية. وقراءة بلزاك تمرن المرء على فهم الإنسان في التحليل أكثر من كل القوى التحليلية في العالم، لأن بلزاك كان فناناً عظيماً قادراً على كتابة تواريخ حالات، ولكن بأي ثراء، وبأي غنى، يغوص حقاً إلى البواعث اللاشعورية للناس ويُظهرهم في ترابطاتهم مع الوضع الاجتماعي. وتلك كانت محاولة بلزاك: لقد أراد أن يكتب طبع الطبقة الفرنسية الوسطى في عصره. وإذا كان المرء مهتماً حقاً بالإنسان وبلا شعوره، فعليه ألا يقرأ الكتب المدرسية، بل فليقرأ بلزاك، وليقرأ دوستويفسكي، وليقرأ كافكا. ففي تلك النصوص تتعلم شيئاً عن الإنسان، أكثر بكثير مما تتعلم في الكتابات التحليلة النفسية( وفي جملتها كتبي). وفيها يجد المرء غنى التبصّر العميق، وما يمكن أن يفعله التحليل النفسي، يجب أن يفعله فيما يتعلق بالأفراد.‏
وما ينبغي أن يتعلمه الناس والمحللون منها بخاصة قبل كل شيء هو رؤية الفارق بين الحقيقي والمظهر الخارجي. وفعلياً فإن هذا الفهم شديد الضعف اليوم. فأكثر الناس يحبسون الكلمات واقعاً؛ إن ذلك هو الآن خلط أحمق جنوني. ولكنني أعتقد كذلك أن معظم الناس لا يرون الفارق بين المظهر الخارجي والحقيقي، على الرغم من أنهم يرونه لا شعورياً. ويمكن في الكثير من الأحيان أن تجدوا حلماً كان الشخص فيه قد رأى في النهار رجلاً وظن أنه ظريف جداً وأحبه، ثم يرى حلماً ويرى هذا الشخص قاتلاً، أو سارقاً، مما يعني ببساطة أنه كان يدرك باطنياً أن هذا الرجل فيه غش. ولكنه في وعيه لم يكن مدركاً ذلك حين رآه. ولا ريب أنك لا تزعم أن شخصاً ما قاتل ـ وأنا لا أقصد قاتلاً واقعياً، بل في نيّاته ـ أو أن شخصاً ما تدميري إلا إذا أثبتنا ذلك، أو قد يكون الرجل قد قال لـه شيئاً ولذلك كان مغتبطاً. ونحن غالباً ما نكون في أحلامنا صادقين، أكثر صدقاً بكثير مما نكون في النهار، لأننا لا نتأثّر بالأحداث من الخارج.‏
التعامل مع المريض‏
[للبدء في علاقة علاجية لابد من أن تُفترض الثقة المتبادلة سلفاً. ولو سألني مريض أثق به، لأجبته:]"إنني أثق بك في الوقت الحاضر ولكن ليس لديّ مسوّغ أن أثق بك وليس لديك مسوّّغ لتثق بي. ولنر ما يحدث، وهل نستطيع أن يثق بعضنا ببعض بعد فترة عندما يقوم بيننا اتصال ما.". ولو قلت له:"لا ريب أنني أثق بك ‍!" لكنت كاذباً. كيف أستطيع أن أثق به إلا إذا كان شخصاً استثنائياً للغاية؟ وفي بعض الأحيان أثق بشخص بعد رؤيته أو رؤيتها بخمس دقائق. وفي بعض الأحيان أعرف بالتحديد أنني لا أثق بشخص ما. وعندئذ يكون ذلك بالغ السوء لأنه ليس أساساً للتحليل.‏
وعدم الشروع في التحليل يعتمد على عدة أمور. فإذا كان لديّ انطباع أنني لا أثق بهذا الشخص، ولكنني لا أزال أرى فيه أو فيها شيئاً يمكن أن يتغيّر، فقد أخبره أو أخبرها أنني لا أجده أو لا أجدها أهلاً للثقة كثيراً ولكنني لا أزال أعتقد باحتمال وجود شيء ما. أو إذا لم تكن هذه هي الحال، فمن شأني أن أجد سبباً ما من دون أن أسيء إليه أو إليها، لأقول إنني لا أعتقد أننا مستعدان تمام الاستعداد للعمل معاً، والأفضل أن يذهب ( أو تذهب) إلى شخص غيري.‏
وأنا لا أريد أن أقول لأي شخص في العالم ـ ولم أقل ذلك ـ إنه أو إنها لا يمكن أن يُحلَّل أو تُحلَّل أو يساعَد يساعُد. وأنا مقتنع بعمق أن تلك عبارة لا يمكن لأحد أن يكون مسؤولاً عنها. إنني لست إلهاً ولا سبيل لي إلى أن أعرف بالتحديد هل الشخص ميؤوس منه أم لا. قد يكون حكمي بأنه كذلك، ولكن أنّى لي أن أثق بحكمي إلى حد أن أُصدر قراراً بحق ذلك الشخص وأقول إن أحداً غيري لا يمكن أن يساعده؟ وهكذا فأنا لم أ كن أنهي المقابلة الأوّلية أو أي عمل أوّلي بهذه العبارة . وإذا شعرت أنني لم أكن في وضع أقدر فيه على العمل مع ذلك الشخص، فقد كنت أرسله إلى شخص غيري ـ ولم يكن هذا عملاً أقوم به على سبيل الاعتذار بل لأنني أعتقد بعمق بأن واجبي الإلزامي هو تقديم أية فرصة له، وأن حكمي هو بالتأكيد ليس كافياً لأؤسس عليه مثل هذا القرار الجوهري.‏
وفيما يتعلق بتخفيض الاتكال، فهو مسألة جرعة في كل حالة. فإذا كان لديك مريض في حالة قريبة من الفصام مصحوبة بما أدعوه الارتباط التواكلي المتطرف بمحلله، الذي يشعر فيه الشخص أنه ضائع تماماً، فإذا لم يكن لديه ذلك الارتباط المتين الذي لا تنفصم عراه بالشخص المضيف، فإنك تجد عند الكثيرين من المرضى الفُصاميين أو الذين هم في حالة ما قبل الفُصام أن ثمت علاقة تواكلية بشخص الأم أو الأب. وتلك هي اللحظة التي يجب فيها أن يجابَهوا بضرورة أن يقفوا على أقدامهم ـ على الرغم من وجود خطر الانهيار الذَُهاني. وفي العلاقة التواكلية، أود أن أعبّر عن الأمر على هذا النحو: إن عملية التفرد لم تحدث على الرغم من أن الشخص قد تجاوز المراهقة.‏
وقد اعتقد فرويد أنه بفحص شخص، ودراسة أعماقه، فإن استبصاره للعملية التي تجري في أعمق أعماقه يجب أن يؤدي إلى تغيير في شخصيته، وشفاء أعراضه. وأود أن ألفت الانتباه إلى مسألة كم كانت هذه الفكرة غريبة في بابها، خصوصاً إذا فكرتَ في الزمن الحالي، وقد قال بعض الناس بذلك حتى في ذلك الحين، قبل سنوات كثيرة ـ فتخصيص ذلك الزمن الطويل لشخص واحد ليس من الحالة النفسية المعاصرة. بل على العكس، فإن أهم اعتراض على التحليل النفسي هو أنه يظل يستغرق الكثير جداً من الوقت.‏
ومن المؤكد تماماً أن التحليل الرديء لابد أن يكون أقصر تحليل ممكن، ولكن التحليل العميق والناجع لابد أن يدوم الوقت الطويل الضروري. ومن الطبيعي أن على المرء أن يسعى إلى الطرق التي لا تجعله يدوم مدة أطول من الضروري ولكنني أود أو أقول أن الفكرة التي مفادها أن من المفيد تخصيص ذلك الاهتمام مئات ومئات الساعات لشخص واحد هي في حد ذاتها تعبير عن نزعة إنسانية عميقة عند فرويد. وفكرة أن التحليل النفسي يستغرق زمناً طويلاً جداً هي في ذاتها ليست حجة عليها، وإذا قدّمها المرء بوصفها مشكلة اجتماعية، فهي محض تبرير عقلي. وذلك يعني أن المرء يبرر أفكاره بأن ذلك الشخص لا يستحق ذلك الاهتمام الشديد، وأن ذلك الشخص ليس بتلك الأهمية. إن المرء يبرر ذلك بتقديم وجهة نظر، وجهة نظر اجتماعية، أنه لا يحصل على هذه المعاملة إلا الأفراد الأحسن حالاً.‏
وفكرةُ أن المريض يجب أن يدفع لقاء المعالجة وإلا لن يستطيع أن يتعافى، هي على النقيض من قول الإنجيل، إن الأغنياء لن يدخلوا ملكوت السماء. وأعتقد أن ذلك لغو واضح. لأن المسألة الحقيقية هي ما الجهد الذي يبذله الشخص؛ لأن دفع شخص غني جداً لقاء المعالجة لا يعني شيئاً على الإطلاق. وهو في الحقيقة حسم من الضرائب مستحب على الدوام. ولذل فإذا لم يُظهر الشخص اهتماماً بأنه يدفع أو لا يدفع، فذلك هو المعيار الوحيد، وإنه لتبرير فيه خدمة ذاتية كبيرة أن يكون عليه أن يدفع ـ وكلما دفع أكثر تعافى على نحو أسرع، لأنه يقوم بأكثر من تضحية. وحقاً إنها لفكرة الأزمنة الحديثة أن ما تدفع ثمنه تقدّر قيمته تقديراً أكبر، وما لا تدفعه ثمنه تقدّر قيمته تقديراً أقل. وإذا دفعت الكثير فقد تقدّر قيمة التحليل النفسي تقديراً قليلاً لأنك قد تعوّدت الشراء. تلك حقيقة واقعة. فالناس لا يقدّرون، وخصوصاً عندما يكون لديهم المال؛ إنه على وجه الخصوص لا يقدّرون ما يشترونه.‏
[وفيما يتصل بالعلاج النفسي الجماعي] فأنا شديد الارتياب ولكن عليّ أن أقول إنني لم أمارس العلاج الجماعي ومن المحتمل بالضبط لأنني أنفر منه إلى أبعد الحدود. إنني أنفر تماماً من فكرة أن يتحدث شخص واحد بحميمية عن نفسه أمام عشرة أشخاص آخرين. إنني لا أستطيع أن أتحمل ذلك. كذلك لديّ ارتياب في أن هذا هو التحليل النفسي للإنسان الذي لا يستطيع أن يدفع خمسة وعشرين دولاراً، ولكن إذا تجمّع عشرة أشخاص فإنهم يدفعون خمسين دولاراً وهذا رائع.‏
وفعلياً يمكن أن أتصور أن العلاج الجماعي للمراهقين يمكن أن يكون شديد الفائدة. وإذا لم يكونوا شديدي المرض، ولديهم مشكلات متشابهة، فيمكن أن يساعدهم على رؤية أن لديهم مشكلات مشتركة وعلى أساس ظاهري ومع بعض التعليم الجيد، وبعض النصح الجيد، أعتقد أنه يمكن تخفيف مشكلاتهم وذلك شيء جيد جداً. ولكنني لا أعتقد بأية حال أنه بديل من التحليل النفسي. إن التحليل النفسي منهج شديد التفرد والبعد الشخصي إلى حد أنني لا أعتقد أنه مناسب لمنهج العلاج الجماعي. وأنا في هذه الناحية إنسان فردي وعلى الدُّرْجة القديمة.‏
وأعتقد أن الجو الذي نراه يقلل الخلوة باطّراد من أجل الثرثرة المشتركة ويُفضي إلى موقف مضاد للإنسانية ومضاد للمذهب الإنساني. ولا أعتقد أن ذلك يؤدي إلى أي علاج جيد باستثناء أحوال خاصّة جداً لا أريد فيها أكثر من ذلك. والقول بأن العلاقة بالمريض مصطنعة لا يُحدث وقعاً في نفسي. فعلاقة الحب بين شخصين علاقة مصطنعة كذلك لأنهما لا يتطارحان الغرام في المجتمع وأشد ساعاتهما حميمية لا يشارك فيها عشرة أشخاص آخرين. وأعتقد أن ثمت الكثير من التبرير في عصر تضيع فيه الخلوة باطّراد.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق