اخر الاخبار

السبت، 6 نوفمبر 2010

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي - مقدمة الترجمة العربية


مقدمة الترجمة العربية
الدوغمائية والنسبية تستبعدان الحوار‏
يتفطّن الناقد الروسي ميخائيل باختين في كتابه عن دوستويفسكي لمسألة في الحوار على درجة كبيرة من الأهمية هي استبعاد النسبوية relativism والدوغمائية لكل حوار حقيقي، حيث تجعله النسبوية غير مفيد وتجعله الدوغمائية مستحيلاً.(1)‏
وتستوقفنا هذه الفكرة على وجه الخصوص بالنظر إلى اهتمامنا الشديد بالحوار بحثاً وترجمة، ولأنها لا تقتصر على إدراك خطر الدوغمائية على الحوار، كما جرت العادة، بل تتفطّن للخطر الآخر الذي لا يقل سوءاً وهو النسبوية. ويمكن القول إن النسبوية هي النفي المطلق لكل شمول، أو كما يعبر تودوروف، فعندها أن "كل شيء نسبي إذن... إلا مذهب النسبية، فهو شمولي!"(2) ولكن الشمولية كامنة في القوانين العامة، وفي القواسم المشتركة، وفي وجود الواقع الموضوعي. وعلى حين تعتقد العقلانية بإمكانية الاقتراب من الحقيقة، وإمكانية جعل الرؤية أوضح وأشمل وأدقّ بالتدريج، لا تعتقد النسبوية بوجود أية حقيقة. وقد اتّخذ أحد النسبويين، وهو الروائي والسياسي الفرنسي موريس باريس Maurice Barrés (1862ـ 1923) من تبرئة دريفوس سنة 1906 في دعواه الشهيرة دعماً لفكرة النسبوية، حيث قال: "كان دريفوس خائناً إبان اثنتي عشرة سنة من خلال حقيقة قضائية (...) ومنذ أربع وعشرين ساعة، من خلال حقيقة قضائية جديدة، هو بريء. إنه درس عظيم أيها السادة، ولا أقول درساً في الريبية، وإنما في النسبوية، درس يدعونا إلى تهدئة أهوائنا."(3) إنه يجعل مسألة براءة دريفوس أو إدانته مسألة نسبية تماماً، ولا مجال لمعرفة الحقيقة مهما درسنا مواد الإثبات أو النفي، لأن الحقيقة غير موجودة أصلاً.‏
فالنسبوية هي تطرف في النسبية بنفي الشمول كلياً، كما يمكن لنفي النسبية أو تجاهلها أن يُدعى الشمولوية. وكلاهما تطرف؛ فالشمولوية تؤدي حتماً إلى الدوغمائية، والنسبوية إلى السلبية والانتهازية وتقهقر الفكر وانعدام الحوار. ولا يكون النظر السليم إلا في إدراك العام والخاص، والشامل والنسبي. والركيزة الأساسية للحوار هي الأسس المشتركة، وكما قال تودوروف، فإن "الشامل هو أفق التفاهم."(4) والشمولية هي التي يتوقف عليها نجاح العلم، وعليها تنبني الأفكار التي تتجاوز إطار المصالح الضيقة، وتتأسس المنظومات الفكرية والمعرفية التي تجعل محورها إنسانية الإنسان. ويصف فرانسوا جوست الأدب المقارن بقولـه: "إنه علم بيئة على المذهب الإنساني، ونظرة شمولية تضمينية إلى العالم."(5)‏
على أن باختين نفسه قد وقع في النسبوية في الكتاب نفسه الذي حذّر فيه من النسبوية والدوغمائية. وقد زعم أن الرواية الحوارية تقوم على بعدين هما: إما أن تؤخذ الأفكار لمضمونها، وعندها تكون صحيحة أو مغلوطاً فيها؛ وإما أن تؤخذ على أنها إشارات إلى نفسية الشخصيات. وتوهّم باختين أنه اكتشف حالة ثالثة في الفن الحواري، بعيدة عن الصواب والخطأ، وعن الخير والشر، وهي أن كل فكرة هي فكرة شخص، تتحدد بالنسبة إلى الصوت الذي يحملها، وبالنسبة إلى الأفق الذي تهدف إليه. وهكذا نجد تعددية وجهات النظر: فهناك وجهات نظر الشخصيات، ووجهة نظر المؤلف التي تستوعبها؛ ولا تعترف بالأفضليات أو الطبقية. وهذه هي النسبوية بعينها، النسبوية التي أدرك هو نفسه أنها تستبعد الحوار، فكيف تكون البعد الثالث للحوار!‏
ولم ينجُ باختين من الدوغمائية كذلك، ولعل أبرز مثال على دوغمائيته هو اعتقاده أن أسطورة آدم التوراتية هي الوحيدة التي لا تدخل في علاقة تناصيّة مع أي نص سابق. يقول: "آدم فقط هو الوحيد الذي كان يستطيع أن يتجنّب تماماً إعادة التوجيه المتبادلة فيما يخص خطاب الآخر الذي يقع في الطريق إلى موضوعه. لأن آدم كان يقارب عالماً يتّسم بالعذرية، ولم يكن قد تُكلّم فيه، وانتُهك بوساطة خطاب الآخر."(6)‏
فقد صار معروفاً أن أسطورة الفردوس السومرية "ديلمون" تكمن في أساس القصة التوراتية، وفيها جنة الآلهة التي تجري من تحتها الأنهار، وفيها أكْل إنكي من النباتات المحرّمة واللعنة التي انصبّت عليه لفعله هذا، وفيها امرأة تدعى "نين ـ تي" ومعناها "حواء" أو "السيدة التي تحيي" ومعناها كذلك "سيدة الضلع"، وفيها قصة عن الضلع تعدّ المصدر التفسيري لتكوين حواء التوراتية من ضلع آدم، وفيها ذكر للربات اللواتي يلدن من دون ألم أو عناء يوضّح خلفية اللعنة على حواء التي سيكون نصيبها أن تحبل وتلد الأولاد في ألم.(7) ولكن حتى هذه الأسطورة وكل الأساطير السومرية لا يمكن أن تعدّ البداية الأولى ذات البكورية بحيث لا تدخل في علاقة تناصيّة مع أي نص سابق. وكما قال كريمر: "على أن كتّاب الأساطير السومريين كانوا على العموم الورثة المباشرين للمغنين والزجّالين الأميين من أقدم الأزمان، وكان هدفهم الأول هو تأليف القصائد القصصية عن الآلهة التي من شأنها أن تكون جذابة وملهِمة ومسلية".(8) وهكذا فإن الحلقة لا تنتهي.‏
ولنحاول الآن بعد أن ذكرنا هذين العائقين للحوار، وهما النسبوية والدوغمائية، أن نعود إلى الشرطين اللذين لا بد منهما للحوار.‏
شرطان للحوار‏
كنت في تقديمي للترجمة العربية لكتاب توينبي وإكيدا الحواري قد ذكرت أنه لنجاح أي حوار شرطان مسبقان. أولهما أن يفهم المرء أن للطرف الآخر، أي المشارك في الحوار، حقاً يساوي حقه جوهرياً. وهذا يعني أن يأخذ المرء رأيه بجدية، بوصفه رأياً ممكناً يستطيع أن يناقشه. ويترجم الفيلسوف الألماني أو. ف. بولنوف هذا الشرط إلى صيغة بسيطة بقوله: "إن الشرط المسبق الأول للحوار هو القدرة على الإصغاء إلى الآخر. والإصغاء بهذا المدلول يعني أكثر من التقاط الإشارات الصوتية، كذلك أكثر من فهم ما يقوله الآخر؛ إنه يعني أن أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئاً، شيئاً مهماً بالنسبة إليّ، شيئاً عليّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة، على تغيير رأيي."‏
أما الشرط المسبق الآخر فهو الثقة بالآخر، وتعني أن يكون المرء مستعداً للتصريح برأيه ولا يخشى الأذى. وقد قال الفيلسوف الصيني "لاوتسه": "إذا لم تثق بما فيه الكفاية، فلا أحد سيثق بك." ولا شيء كالحوار يخلق أساساً للثقة يترسّخ على نحو متقدم(9).‏
وبودي الآن أن أتعمق قليلاً وأطرح السؤال الجوهري التالي: كيف لي أن أصغي إلى الآخر وأثق به إذا كنت أساساً لا أصغي إلى نفسي ولا أثق بها؟‏
ومن أبرز ما يلاحظه المرء حول انعدام الثقة بالذات على الصعيد العام وجود فريقين يعتقد كل منهما أنه على النقيض من الآخر، وهما يعبّران في الواقع عن الظاهرة نفسها: يرى أحدهما أن كل الأسباب لعدم تقدّمنا وتحقيق ما نصبو إليه هو الأجنبي الذي لا يدّخر وسعاً لعرقلتنا، في حين يرى الفريق الآخر أننا لا نستطيع أن نحقق ما نصبو إليه بأنفسنا ولا بد من تدخّل الأجنبي لتحقيق مصالحنا. إن كلا الفريقين يتّهم الآخر بشيء، ففريق يقول إن الآخر يجعل الأجنبي مشجباً يعلّق عليه كل شر، وتكون النتيجة عنده هي تبرئة الأجنبي أو تجاهل أخطاره، وفريق يقول إن الآخر يرضى بالتبعية ولا يؤمن بالوطن وما إلى ذلك ويكتفي بالشجب والشتيمة. ولكن كلا الفريقين يجعل للآخر الأجنبي القوة القاهرة التي لا يمكن لأية إرادة ذاتية أن تقف في وجهها، فإما هي قوة للشر وإما هي قوة للخير. ولا يحاول أي من الفريقين أن يدرس ويناقش القوة الداخلية والاستراتيجية التي نتخذها والأخطاء التي نرتكبها وإمكانية تحسين وضعنا ضمن الظروف الدولية الحاضرة. هل نقوم بأفضل ما في وسعنا؟‏
وحين يجري نقاش حول قضية من قضايا وجودنا، فإن الخلاف لا يحتدم على الأغلب إلا حول الأمور التي لم تحدث، فهذا يؤكد أن هذا ما سيحدث وذلك يؤكد أن ما سيحدث هو أمر آخر. إنهم لا يناقشون الوقائع وما يمكن أن تدل عليه، ولا يتنازعون على فهم ما يحدث، بل يتنازعون بسبب تباين الأحلام ـ أو حتى الكوابيس ـ التي تستولي عليهم. ولا يحدث الخلاف حول الوقائع إلا إذا تبيّن للحالم أن هذه الواقعة أو تلك تناقض حلمه بما سوف يحدث. ولكن فيما عدا ذلك، فالوقائع لا تهم كثيراً، ولا يجري الخلاف حولها، وكل الأهمية لما لم يحدث ـ للحلم أو الكابوس الذي يعيش فيه المرء. فهم في هذه الحالة لا يقرؤون الواقع، بل يجزمون بحدوث أمور لا يمكن أن يُستمد من الواقع مجرد الإشارة إليها. جلّنا إذن من الناس الذين يصفهم فروم في هذا الكتاب ـ "فن الإصغاء" ـ بأنهم أنصاف أيقاظ وأنصاف نيام. فهم، "ما داموا يعالجون مشكلات وجودهم الإنساني، فهم جهلة. وعندما يعالجون مسائل العمل، فهم يعرفون معرفة جيدة جداً. وعندئذ يعرفون كيف يترأّسون، وكيف يحتال المرء على الآخرين وعلى نفسه. ولكن عندما يصل الأمر إلى مسألة الحياة فهم أنصاف أيقاظ أو أقل من أنصاف أيقاظ." فترى الناس بأحلامهم يتلاكمون، ولا أحد يصغي إلى الآخر، فجلّهم في حرب ومناجاة داخلية.‏
فما السبب لعدم الإصغاء؟‏
الإصغاء والخلوة مع الذات‏
يبيّن فروم في كتابه "الإنسان من أجل ذاته: بحث في سيكولوجية الأخلاق" أن شرط الوجود الاجتماعي هو الوجود في البيت، وشرط الإصغاء إلى الآخر هو الإصغاء إلى الذات. وإصغاء المرء إلى نفسه يواجه في ثقافتنا الحديثة صعوبات جمة. يقول فروم: "إن إصغاء المرء إلى نفسه شديد الصعوبة لأن هذا الفن يقتضي قدرة أخرى، نادرة في الإنسان الحديث: هي قدرة المرء على أن ينفرد بذاته. ونحن في الحقيقة قد أنشأنا رُهاب الانفراد؛ ونفضّل أتفه صحبة أو حتى أبغضها، وأكثر النشاطات خلواً من المعنى، على أن ننفرد بأنفسنا. ألأننا نعتقد أننا سنكون في صحبة بالغة السوء؟ أعتقد أن الخوف من أن نكون وحيدين مع من أنفسنا هو إلى حد ما شعور بالارتباك، يقارب الرعب من رؤية شخص معروف وغريب في وقت واحد؛ فنخاف ونولّي الأدبار. فنُضيع بذلك فرصة الاستماع إلى ذواتنا، ونستمر في جهلنا لأنفسنا."(10)‏
على أنه لا مندوحة للإنسان الذي يود أن يتقدم في الحياة من فهم نفسه بعمق إذا أراد أن يفهم الذين حولـه ويفهم العالم. فالمعرفة النفسية ليست اختصاصاً قد نميل إليه أو لا نميل، بل هي ضرورة لنا جميعاً مهما كانت اختصاصاتنا وتوجّهاتنا. ويقول فروم في كتابه "فن الإصغاء": "كيف للمرء أن يعرف العالم؟ كيف للمرء أن يعيش ويستجيب كما ينبغي إذا كانت تلك الأداة التي ستعمل، والتي ستقرر، مجهولة بالنسبة إلينا؟ نحن المرشد، والقائد لهذا الـ "أنا" الذي يتصرف على نحو ما لنعيش في العالم، ونكوّن القرارات، ونولي الأولويات، وتكون لنا قيم. فإذا كان هذا الـ "أنا"، هذا الفاعل الأساسي الذي يقرر ويفعل، لا نعرفه كما ينبغي فإنه ينجم عن ذلك أن كل أفعالنا، وكل قراراتنا قد تمت بحالة نصف عمياء أو بحالة نصف متيقّظة." ويقول أيضاً: "إن التحليل النفسي ليس مجرد علاج، بل هو وسيلة لفهم الذات. أي أنه وسيلة في فن العيش، وهي في رأيي أهم وظيفة يمكن أن تكون للتحليل النفسي."‏
وإذا كانت فصول هذا الكتاب قد وُجّهت أصلاً لفائدة المحللين النفسيين، فإنها قد راعت في الوقت نفسه أن تكون عوناً لكي يحلل كل إنسان نفسه ويفهمها ذاتياً. فمشكلة الإنسان ليست مستحيلة الحل، ولكن يجب مع ذلك عدم الاستهانة. ونحن نجد في ثقافتنا العربية عند بعضهم نوعاً من الميل إلى الاستهانة بالمشكلات الخطيرة التي تواجه المجتمع أو الأمة، توهماً من أولئك الناس أنهم يسهّلون حلها. وهم في الحقيقة في عدم تحليل المشكلة في مختلف أبعادها، وإيمانهم بحل سحري آت لا ريب فيه، إنما يعبّرون عن يأس عميق من حلها وعن ميل دفين إلى إسكات كل محاولة جدية للتغلّب عليها. ويقول فروم في هذا الكتاب: "وكل نوع من التشجيع المغلوط فيه قاتل، مؤذ، إلا إذا كان المريض في حالة ميؤوس منها إلى حد أن المرء لا يستطيع أن يتوقّع أن يكون للحقيقة الكاملة أي جدوى بعد ذلك." ويقول أيضاً: "فإذا شجّعتُ شخصاً وبالغت في تقليل شدة المشكلة، فإنني لا أقوم إلا بإيذاء الشخص، وذلك ببساطة لأنني أمنع طاقة الطوارئ من الظهور."‏
والكتاب غني بالأفكار التي تساعد الإنسان على الإصغاء إلى نفسه وإلى غيره، غني بالتجارب والخبرات والأمثلة التي تساعد على معرفة الإنسان وتقدمه إلى الأمام، وعلى كشف ما يبديه المرء من مناورات لمقاومة التغيّر والصحة والتقدم، ومنها الميل إلى التوفيقية، وتساعد كذلك على التغلّب عليها.‏
وفي هذه المقدمة لا أود أن أقدّم تعريفاً تقليدياً بالمؤلف، الذي هو أستاذ عظيم في فن الإصغاء، بل سأحاول تقديم صورة وجيزة عن علم النفس لديه بمقارنته بنظرية الأنظمة الحية.‏
فروم ونظرية الأنظمة الحية‏
تحتل نظرية الأنظمة الحية في هذه الأيام مركز الصدارة في العلم(11). وتتم فيها رؤية التنظيم الذاتي، وبتعبير آخر، الاستقلال الذاتي، على أنه علامة الحياة الفارقة؛ وهذه الفكرة يتم سبرها في عدة أنواع من السياقات، فيدرسها على مستوى الخلايا هومبرتو ماتورانا Humberto Maturana وفرنشيسكو فاريلا Francisco Varela، وتدرسها على مستوى الأسرة مدرسة ميلانو، ويدرسها على مستوى المجتمع نيكلاس لومان Niclas Luhman. وفي كل هذه الحقول استكشف العلماء الأنظمة الحية، والكليات المتكاملة التي لا يمكن أن تُختزل خواصّها إلى خواص أجزاء أصغر منها. وتتيح نظرية الأنظمة طريقة جديدة في رؤية العالم وطريقة جديدة تُعرف بـ "التفكير على أساس الأنظمة" أو "التفكير النظامي" وهذا يعني التفكير على أساس السياق والعلاقات والنماذج والسيرورات. والأنظمة الحية ليست طولية ـ بل هي شبكات ـ على حين أن التراث العلمي التقليدي قائم على التفكير الطولي. وتقول نظرية الأنظمة إن ماهية الحياة لا تكمن في الجزئيات، بل في النماذج والسيرورات التي ترتبط بها هذه الجزئيات، ونماذج الحياة الأساسية هي طرق ترتيب العلاقات بين السيرورات البيولوجية.‏
والتحوّل الذي كان بالغ الإثارة في الفيزياء الحديثة كان تحولاً من رؤية العالم الفيزيائي بوصفه مجموعات من الكينونات المنفصلة إلى رؤية شبكة العلاقات. فما ندعوه جزءاً هو نموذج في تلك الشبكة من العلاقات قابل للتمييز، لأن لـه بعض الثبات. ويعتقد علماء نظرية الأنظمة بهذه الطريقة بدقة. وهم يقولون إن الكائن الحي يحدَّد بعلاقته بالبقية. فخواص الأشياء تنساب من علاقاتها. ورؤية العالم في نظرية الأنظمة إيكولوجية هوليسية، وتعني هوليسية أنها كلية ولكن كليتها ليست مجموع الأجزاء. وهذه الرؤية هي أكثر من ذلك. إنها لا تنظر إلى شيء بوصفه كُلاًّ وحسب بل كيف يترسّخ هذا الكل في كُلاّت wholes أكبر. فكل نظام حي هو كل، والنظام الحي الأكبر هو الأرض. ويغدو هذا الأمر مهماً على وجه الخصوص عندما تُدرس الأنظمة الحية ـ الكائنات العضوية الحية، والأنظمة البيئية، وهلم جراً ـ ولكن يمكن أن يُستخدم كذلك بالنسبة إلى الأشياء غير الحية. والعالم هو، قبل كل شيء، كائن حي، ولم يعد نظاماً ميكانيكياً ميتاً بل هو نظام حي، لـه ذكاؤه، وله "تنبّهه"، كما قال غريغوري بيتسون Gregory Bateson.‏
ويقول فروم في توضيحه لموقفه السيكولوجي: "الإنسان نظام ـ كالنظام البيئي أو السياسي، أو نظام الجسم أو الخلية؛ أو نظام المجتمع أو المنظمة. ولدى تحليل نظام "الإنسان" نفهم أننا نعالج نظام قوى وليس بنية ميكانيكية لجُزيئات سلوكية. ولنظام الإنسان، كأي نظام، تماسك شديد في داخله. ويُبدي مقاومة كبيرة للتغيّر؛ وفضلاً عن ذلك، فإن تغيُّر مفردة فيه يُزعَم أنها "سبب" مفردة أخرى غير مرغوب فيها لن يُحدِث أي تغيير في النظام في كليته."(12)‏
وبناء على هذا الفهم فقد كان فروم يعي أن الإنسان نظام في شبكة من الأنظمة، فلذلك كان يؤكد تحليل البنية الخاصة لأي مجتمع مذكور، وهذا ما لم يفعله فرويد ويونغ. ويقول في "فن الإصغاء": "والرأي عندي أن التحليل الاجتماعي والتحليل الشخصي لا يمكن أن ينفصلا. إنهما جزء من الرؤية النقدية لواقع الحياة الإنسانية." وفي دراسة البنية الاجتماعية يؤكد فروم أهمية العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية والنماذج الثقافية، وينبّه على الدور التوجيهي لما يسميه "الطبع الاجتماعي" في تكوين الطبع الفردي. ويرى أن على المحلل النفسي ألا يكتفي بدراسة علم النفس لفهم الإنسان، ويقول في هذا الكتاب: "إن منهج التدريب على التحليل النفسي يجب أن يتضمن دراسة التاريخ، وتاريخ الدين، والأسطوريات، والرمزية، والفلسفة، أي كل المنتجات الأساسية للذهن الإنساني." وهو يوصي المحللين النفسيين بدراسة بعض النصوص الأدبية، كأعمال بلزاك ودوستويفسكي وكافكا، حيث سيجدون فيها من التبصّر العميق للإنسان ما لا يجدونه في الكتابات التحليلية النفسية. ويقول، "وما يمكن أن يفعله التحليل النفسي، يجب أن يفعله فيما يتعلق بالأفراد."‏
وهذا الفهم للإنسان على أساس الأنظمة يفضي بفروم إلى افتراقه عن التحليل النفسي الكلاسيكي الذي كان يقتصر على المعالجة الجزئية، كما هي الحال بالنسبة إلى القلق، الذي هو داء العصر. ويقول في "فن الإصغاء": "والرأي عندي أن التحليل النفسي بالمعنى الكلاسيكي ليس كافياً لهذا النمط من الداء. والمطلوب هو نمط مختلف لأن هذا الداء يعادل مسألة التغيّر الجذري في الشخصية الكلية. ولا يمكن لمن يعاني من هذا الداء أن يحلَّل بنجاح من دون تغيّر جذري ومن دون تحوّل طبعه. والتغييرات الطفيفة والتحسينات الزهيدة لا تفعل أي خير. ويمكن لنظرية الأنظمة الحديثة أن توضح ذلك. وأنا أشير إلى أن مفهوم الشخصية ـ أو المنظومة ـ نظام. أي أنها ليست المجموع الكلي للأجزاء، ولكنها بنية."‏
ويقول أيضاً: "فإذا أحدث المرء في هذه البنية تغيّرات طفيفة، فإنها لا تتغير كثيراً. ولتقديم مثال بسيط أقول: كانت الفكرة الشائعة هي تغيير الوضع في حي فقير ببناء دور أجود في الحي الفقير. ماذا يحدث؟ إنه بعد ثلاث أو خمس سنوات تكون الدور الجميلة الجديدة مثل دور الحي القديم تماماً. لماذا؟ لأن التربية قد ظلت نفسها، والدخل قد ظل نفسه، والصحة قد ظلت نفسها، والنماذج الثقافية قد ظلت نفسها ـ أي إن النظام ينمو فوق هذا التبدّل الطفيف، هذه الواحة الصغيرة، التي تندمج بعد فترة في النظام الكلي. وليس بمقدوركم تغيير الحي الفقير إلا إذا غيرتم النظام الكلي ـ فغيّرتم في الوقت نفسه الدخل، والتربية، والصحة، ومعيشة الناس كلها. وعندئذ ستغيّرون الدور كذلك. ولكنكم إذا غيرتم جزءاً واحداً فليس ذلك كافياً. وذلك لا يمكن أن يقاوم تأثير النظام الذي ـ إذا جاز القول ـ يهتم ببقائه حياً."‏
ويضيف: "وبالمعنى نفسه فالفرد نظام أو بنية. وإذا حاولتم القيام بتغييرات طفيفة فإنكم سرعان ما تجدون أن هذه التغييرات ستزول بعد مدة من الزمن، لأنه لم يتغيّر شيء في الحقيقة وأنه لن يُحدث التغيّر إلا التحول الأساسي جداً في نظام الشخصية. ومن شأن ذلك أن يشمل تفكيرك، وعملك، وإحساسك، وتحركك، وكل شيء. وإن خطوة واحدة تكون متكاملة، كلية، أشد نجاعة من عشر خطوات لا تسير إلا في اتجاه واحد. وأنتم ترون الأمر نفسه في التغيّر الاجتماعي، حيث لا يُحدِث تغيّر واحد أثراً دائماً كذلك."‏
ويختلف فروم عن النظرية الفرويدية، التي يراها غريزوية في أساسها؛ وذلك يعني أن كل شيء قائم على الغريزة، ثم ولا ريب كيف جارت البيئة على الغرائز من خلال الطبع. ويختلف عن رؤية فرويد للعوامل التكوينية، أي العوامل الوراثية، التي هي العوامل الغريزية على أساس نظرية اللبيدو، ويرى فروم أن العوامل التكوينية تتجاوز ذلك كثيراً. فما بالك بانعدام التحليلات الأخرى للمجتمع وفهم الرمزية وما إلى ذلك، وكيف أدى ذلك بالإضافة إلى اقتدائه بأفكار الطبقة المهيمنة في المرأة والطفل إلى تحريف كبير للعلاج عنده.‏
وقد برز في نظرية الأنظمة الحية منذ ثمانينيات القرن العشرين مفهوم "قابلية التعزيز" وله الآن الدور المهيمن. وليس ما يعزَّز في الأنظمة القابلة للتعزيز هو النمو أو التطور الاقتصادي. وإنما هو النسيج الكلي للحياة الذي يعتمد عليه بقاؤنا طويل الأمد. وبكلمات أخرى، يُقصد أن تكون الجماعة القابلة للتعزيز على نحو لا تتعارض فيه طرقها في العيش والاقتصاد، وبناها وتقنياتها المادية، مع القابلية المتأصّلة في الطبيعة لتعزيز الحياة.‏
ويستخدم فروم مفهوم العقل استخداماً مشابهاً لقابلية التعزيز حين يتكلم عن الدوافع والرغبات العقلية والسلوك العقلي. يقول في "فن الإصغاء": "إن العقلي هو كل الأعمال والسلوك التي ترفد نمو البنية ونشأتها. وغير العقلي هو كل تلك الأعمال السلوكية التي تعوّق نمو الكيان وبنيته وتقضي عليه، سواء أكان الكيان نباتاً أم إنساناً. وقد تطورت هذه الأمور، وفقاً للنظرية الداروينية، لتكون الجانب الآمن من مصالح الفرد والنوع والبقاء على قيد الحياة. ومن ثم فهي ترفد أساساً مصالح الفرد والنوع ولذلك هي عقلية. فالرغبة الجنسية عقلية. والجوع والظمأ عقليان تماماً." فليس العقل هنا هو العقل الوسيلي، وإنما هو قريب من مفهوم هوايتهد للعقل كما يشير فروم: "إن وظيفة العقل هي ترقية فن الحياة." وواضح أن فروم بعدم إغفاله مصالح النوع قد توصّل، بمصطلحات مختلفة، إلى ما توصّلت إليه نظرية الأنظمة بعد وفاته، ولا سيما حين نقرأ تعريف لِسْتر براون Lester Brown في "معهد المراقبة العالمية" لمفهوم قابلية التعزيز: "إن المجتمع القابل للتعزيز هو المجتمع الذي يُشبع حاجاته من دون إقلال إمكانيات الأجيال القادمة."‏
وتأسيساً على ذلك فإن لدى الإنسان عواطف قابلة للتعزيز، أو عقلية ترفد الحياة، حسب اصطلاحيات فروم، وعواطف غير عقلية. وينشأ عن هذا الفهم اختلاف مع فرويد حول مفهوم العُصاب. فمفهوم فرويد للعُصاب هو أنه نزاع بين الغريزة والأنا. أما فروم فيرى أن "المشكلة الأساسية ليست محاربة الأنا للعواطف، بل هي محاربة نمط من العاطفة لنمط آخر من العاطفة."‏
ويميّز فروم غير مسبوق كذلك بين العُصاب الخبيث والعصاب غير الخبيث. ويعني بفكرة العُصاب الخبيث أحوال العُصاب التي تكون فيها بنية الطبع متضررة. ويكابد الشخص العصاب غير الخبيث أو الخفيف، إذا كانت لا تستولي عليه من حيث الأساس العواطف الخبيثة، بل كان عصابه ناجماً عن صدمات نفسية عنيفة. ويشرح فروم ذلك بمنتهى الوضوح في هذا الكتاب.‏
وتؤكد نظرية الأنظمة الحية أن النظام الحي كلٌّ متكامل مع فرديته، ولديه النزعة إلى توكيد نفسه والمحافظة على تلك الفردية. وهو بوصفه جزءاً من الكل الأكبر، يحتاج إلى دمج نفسه في ذلك الكل الأكبر. ومن بالغ الأهمية أن نفهم أن هاتين النزعتين متعارضتان ومتناقضتان. ونحن بحاجة إلى توازن دينامي بينهما، وهو أساسي للصحة الجسدية والذهنية.‏
وكل من يقرأ كتب فروم يرى أن الهاجس المحوري لديه هو حرية الإنسان الفرد واجتماعيته، وانفصاله واتصاله، وأشكال هذا الاتصال. وكان يرى أن ثمة "شكلاً واحداً من التواصل لا يعوق النمو ولا يسبّب الصدام أو تبديد الطاقة، وذلكم هو الحب الناضج؛ وبه أشير إلى الحميمية الكاملة بين شخصين، يحتفظ كل منهما باستقلاله الكامل، وبمعنى من المعاني بانفصاله. ليس الحب في جوهره صدامياً ولا مبدِّداً للطاقة، لأنه يوحّد حاجتين إنسانيتين عميقتين هما التواصل والاستقلال."(13)‏
تراث شفوي‏
بقي أن نقول إن هذا الكتاب هو من الكتب التي صدرت بعد وفاة فروم، ونشرها بعض علماء النفس المعاصرين من تلامذة فروم نقلاً عنه من المحاضرات التي كان يلقيها على طلابه من دون أن تكون لها أصول مكتوبة. وهذا فضل من هؤلاء العلماء الذين أرادوا أن تنتفع من تراث فروم أجيال جديدة ما كان لها أن تطّلع عليه لولا ذلك. وقد صدرت لفروم إلى الآن عدة كتب من هذا القبيل منها "الحب والدوافع الجنسية والنظام الأمومي: حول الجنوسة"، و"فن الوجود"، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو "فن الإصغاء". وقد أعدّه للنشر الدكتور راينر فونك Rainer Funk من جامعة مونيخ في ألمانيا استناداً إلى تسجيل المحاضرات وحلقات البحث باللغة الإنجليزية، وهو الذي قام بتبويب الكتاب ووضع العنوانات، باستثناء عنوان القسم الأخير، الذي صاغه فروم نفسه.‏
وقد كانت المؤلفات القائمة على المرويات شائعة في تراثنا العربي، بل إن جُلّ كتب التراث قد وصلت إلينا من خلال هذه الطريقة. ونذكر من هذه الكتب "الأمالي" لأبي علي القالي و"أمالي الشجري" و"فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" لابن المرزبان. ولكن الاختلاف هو أنه ربما تصرّف النُّسّاخ قديماً إلى هذا الحد أو ذلك. ويختلف الأمر الآن، فتراث فروم الشفوي مسجّل بصوته بأكمله ومحفوظ في مؤسسة رسمية وتحمل كل وثيقة رقماً لسهولة التناول. والذي قام بالاختيار والتدوين والتبويب عالم معروف، وقد عزل إيضاحاته عن الأصل كما أشار في مقدمته. وله مؤلَّفان عن فروم، أحدهما كتبه وحده، والآخر بالاشتراك مع العالمين النفسيين "إيان بورتمان" Ian Portman و"مانويلا كونكل" Manuela Kunkel، وقد صدرت الطبعة الأولى منه سنة /2000/ بعنوان "إريك فروم: حياته وأفكاره".‏
وقد أتاح لنا الدكتور راينر فونك فرصة ثمينة بعد كل هذه السنوات التي مرت على هذا الكلام المنطوق، فأثرى فكرنا وحياتنا ونحن نصغي إلى هذا المعلم الكبير في فن الإصغاء، كما كان طلابه المحظوظون يصغون إليه.‏
محمود منقذ الهاشمي‏
(1) M. Bakhtin, “Problems of Dostoevsky’s Poetics”, (Michgan: Ardis/ Ann Arbor, 1973), p. 93.‏
(2) ت. تودوروف، "نحن والآخرون"، ترجمة د. ربى حمود، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، 1998، ص 75.‏
(3) "نحن والآخرون"، ص ص 75ـ 76.‏
(4) المرجع نفسه، ص 28.‏
(5) Francois Jost, The Comparative Litterature, p. 30.‏
وراجع د.حسام الخطيب، " الأدب المقارن في عصر العولمة: تساؤلات باتجاه المستقبل" مجلة " نزوى"، يوليو 2003.‏
(6) تودوروف، "ميخائيل باختين: المبدأ الحواري"، ترجمة فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1966، ص 125.‏
(7) S. N. Kramer, “The Sumerians,” (Chicago: The University of Chicago Press, 1963, pp. 148- 149.‏
(8) Ibid., pp. 144- 145.‏
(9) راجع المقدمة العربية لكتاب "التحديات الكبرى: الحياة والدين والدولة"، تأليف آرنولد توينبي ودايساكو إكيدا، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، وزارة الثقافة، دمشق، 1999، ص4.‏
(10) E. Fromm, “Man for Himself”, Routledge & Kegan Paul, London, 1978, p. 161.‏
(11) راجع فريتجوف كابرا، "الحالة الإنسانية في فجر القرن الحادي والعشرين"، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، مجلة "ثقافات" (جامعة البحرين)، صيف 2002.‏
(12) E. Fromm, “The Crisis of Psychoanalysis”, A Fawcett Premier Book, N. Y., 1971, p. 82.‏
(13) Ibid,, p. 86.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق